شعار قسم مدونات

عندما قضيت شهر رمضان في البوسنة والهرسك

blogs- رمضان في البوسنة والهرسك

بدأ كل شيء قبل عامين تقريبا، شهر رمضان يتزامن مع فصل الصيف، يوم طويل وشاق بعض الشيء، ولأننا نقضي وقتا طويلا متجولين بين صفحات ومنشورات الفيسبوك، فكرت في استغلال الشهر الكريم لتقديم فقرة تثقيفية تفاعلية بعد وجبة الإفطار، أسميتها "حدث في مثل هذا اليوم في رمضان"، وكما يدل على ذلك اسمها، تناولت الفقرة أهم الأحداث التي طبعت التاريخ الإسلامي في رمضان، سواء كانت أحداثا سياسية أو عسكرية أو حتى علمية وفكرية أثرت في عموم المسلمين عبر تاريخهم الطويل.

 

اعتقدت في البداية أن المسألة ستكون سهلة للغاية، فالمعلومات متوفرة بيسر، سواء في الكتب الرصينة أو عبر شبكة الأنترنت، ويكفيني فقط تجميعها والمقارنة بينها، لكنني أدركت بسرعة كم كنت واهما، فقد واجهت عدة مشاكل عويصة، أولها تضارب التواريخ واختلاف المؤرخين حولها، عندما يتعلق الأمر ببعض الأحداث المعينة المثيرة الجدل، وأيضا تصدي عدد من المعلقين للرد على بعض المعلومات الواردة في الفقرة، أنتم تعلمون أن بعض هؤلاء لا دور لهم سوى تبخيس المجهود المبذول والعمل بمبدأ "لا بد لي من إيقاعه في المصيدة"، وذلك عبر طرح مجموعة من الأسئلة المفخخة التي تجر النقاش إلى مواضيع أخرى، ما يتطلب مني أقصى درجات التركيز والانتباه والإحاطة بالموضوع من كل جوانبه (تذكر خالد بن الوليد رضي الله عنه فيسألك عن حادثة مالك بن نويرة، قضية استشهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما تبعها من انقسام، اعتبار البعض أن الفتوحات الإسلامية مجرد احتلال لأراضي الغير، إلخ…).

 

أذكر أنها كانت ليلة الرابع عشر من رمضان، كنت أعد المعلومات الخاصة بالفقرة، عندما أثارت انتباهي معلومة صغيرة عابرة لا يتعدى حجمها سطرا واحدا فقط: "في مثل هذا اليوم من عام 1412 هجرية، بدأ قصف دور العبادة من مساجد وكنائس في العاصمة البوسنية سراييفو إبان حرب البلقان". لا أنكر بأنني نسيت كل شيء وركزت فقط على هذه المعلومة.

 

لم تكن معلوماتي عن البوسنة وحرب البلقان آنذاك تتجاوز الأساسيات المتعلقة باندلاعها سنة 1992 وانتهاءها سنة 1995 بعد توقيع اتفاقية دايتون، وبعض الأسماء التي رسخت في الذاكرة، كالرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش، وقادة الصرب سلوبودان ميلوسوفيتش ومعه رادوفان كاراديتش وراتكو ميلاديتش، وأيضا اسم "مجزرة سربرنيتسا" أبشع مجزرة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 

شيئا فشيئا وجدتني غارقا في البحث والقراءة عن حرب، وتاريخ وجغرافية بلد لم أكن أعرف عنه أي شيء. نسيت كل شيء يحيط بي، وانغمست تماما في القراءة عن البوسنة والهرسك، حتى خيل إلي (لا لم يكن خيالا بل حقيقة !) أنني أقضي شهر رمضان هناك في البلقان !

 

أحداث كثيرة وكنز معرفي هائل قضيت معه كل ما تبقى من رمضان، وانفصلت به تماما عن واقعي وحاضري، حتى الفقرة إياها صرت أكتفي بمعلومات مقتضبة فقط لأجد الوقت الكافي ل "العودة" إلى البوسنة والهرسك

جغرافيا أتجول بين أحياء سراييفو، أزور ساحة الباشتشارشيا، أتنقل بين ضواحي دوبرينيا وبوتمير بالقرب من مدرج مطار العاصمة، أقطع جسر الإمبراطور الواصل بين ضفتي نهر ميلجاكا، ألقي نظرة على جسور نهر درينا، أعتلي قمة جبل إيجمان، أرمق من بعيد بيهاتش وبانيالوكا، أتوه في أرياف الهرسك، وأخطو بقدمي فوق جسر ستاري موست العثماني في موستار.

 

تاريخيا أعاين الفترة العثمانية في البلقان (يمكنكم الاستعانة برواية دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب لربيع جابر ورواية جسر على نهر درينا لإيفو أندريتش كمقدمة لسبر أغوار هذه الفترة)، ثم فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية والسيطرة النمساوية، والحرب العالمية الثانية وما بعدها إثر صعود نجم الشيوعية والمارشال جوزيف بروز تيتو في يوغوسلافيا، إلى أن حدث الانهيار الكبير الذي أفرز حرب البلقان في التسعينات.

 

سيطرة ميلوسوفيتش على صربيا الوريثة الكبرى ليوغوسلافيا تيتو، تحريك الدبابات نحو فوكوفار الكرواتية ونسفها عن بكرة أبيها، استفتاء الاستقلال البوسني، اندلاع الحرب في البوسنة بين البوشناق المسلمين والصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، مجازر راح ضحيتها الآلاف، فرق الإرهاب كالعقارب والدبابير الصفراء وذئاب فوتشيك وغيرها ممن تفننت في ارتكاب جرائم يشيب لهولها الولدان، ملحمة بناء نفق سراييفو الذي كسر الحصار، إنشاء الجيش البوسني الفتي، إلخ…

 

أحداث كثيرة وكنز معرفي هائل قضيت معه كل ما تبقى من رمضان، وانفصلت به تماما عن واقعي وحاضري، حتى الفقرة إياها صرت أكتفي بمعلومات مقتضبة فقط لأجد الوقت الكافي ل "العودة" إلى البوسنة والهرسك ! ومع انتهاء الشهر الكريم ارتفع ذلك الصوت في أعماقي، ذلك الصوت الذي أعلم جيدا أنه لا ينطق إلا ليورطني في شر أعمالي :

– ستدور أحداث روايتك القادمة في البوسنة…

– اصمت ولا تورطني أرجوك ! المسألة أصعب وأعقد بكثير مما تظن !

– ألم تكتب رواية عن سوريا التي لم ترها قط ؟ لا تتردد إذا !

– السياق مختلف تماما، والكتابة عن البوسنة أصعب مليون مرة، خاصة إن كنت سأتناول فترة التسعينات ! المعلومات قليلة جدا، خلق عوالم وحبكة مقنعة وشخصيات من لحم ودم (أو من ورق إن تحرينا الدقة) تتحرك في هذا الحيز الشاسع ليس سهلا بالمرة !

– لا تكن جبانا أيها الأحمق، ولا تتظاهر أمامي بالغباء، أعلم أنك قادرا على ذلك، أنت فقط تتظاهر أمامي بالعجز…

– صافي سكت سكت، نتا ديما كتعلقني فين نتفلق ! (حسنا اصمت اصمت، أنت توقعني دائما في شر أعمالي !)

وهكذا خضعت لهذا الصوت وبدأت رحلة البحث الحقيقية…

 

عام كامل تقريبا، لم أكتب فيه صفحة واحدة، بل اكتفيت فقط بالقراءة والبحث وتدوين الملاحظات التي قد تفيد مشروع هذا العمل الروائي الجديد. كان من الطبيعي أن أتمنى لو زرت البوسنة والهرسك بنفسي، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، لم تكن بعض الظروف الشخصية والمادية لتسمح بذلك للأسف!

 

ثم بدأت المرحلة الأهم : الكتابة…

 

عندما اتصل بي الناشر والتقيت به فيما بعد، قال لي بالحرف : لجنة القراءة معجبة للغاية بروايتك، لموضوعها المتفرد وسردها المشوق المختلف وحبكتها القوية

لا داعي للتطرق لبعض التفاصيل فالمجال لا يتسع لذكرها هنا نظرا لخصوصيتها الشديدة بالنسبة لي، كما أن عداد الكلمات في برنامج معالجة النصوص يشير إلى اقترابي من حاجز ال 1000 كلمة، المهم أنني تفرغت للعمل بشكل تام، يوميا وبلا انقطاع، بعدما صرت مهووسا بإتمام المشروع لأسباب أتحفظ على ذكرها هنا، إلى أن أتممته في النهاية.

 

مرت الأيام وأنهيت الرواية، وعندما اتصل بي الناشر والتقيت به فيما بعد، قال لي بالحرف : لجنة القراءة معجبة للغاية بروايتك، لموضوعها المتفرد وسردها المشوق المختلف وحبكتها القوية، وسننشرها بكل تأكيد، لكنه أضاف بلكنته البيروتية الواضحة :

– سؤال واحد يشغل تفكيري…

– ما هو ؟

– هل أنت بوسني الأصل ؟

– لا…

– هل زرت البوسنة من قبل ؟

– أنا حتى لم يسبق لي أن ركبت طائرة في حياتي…

– عندك أصدقاء أو أهل يعيشون في البوسنة أو عايشوا فترة التسعينيات الملتهبة هناك ؟

– أبدا…

– كيف كتبت ما كتبته إذا ؟

أجبته مبتسما بخبث :

– هذا سر المهنة !

 

ثم خاطبت نفسي هامسا :

– السر مدفون هناك، عندما أمضيت أياما من شهر رمضان في البوسنة والهرسك !

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش:

كان هذا رأي الناشر ولجنة القراءة، لكن ما يهمني بالدرجة الأولى هو رأيكم كقراء، ما علينا إذن سوى انتظار موعد صدور رواية "ساعة الصفر 00:00" رسميا، مباشرة بعد نهاية شهر رمضان الحالي إن شاء الله

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.