شعار قسم مدونات

سداسي المأزق المصري والعربي

blogs 6 مانيكنات

إن تأمل ما حدث للمصريين والعرب في السنوات الأخيرة استدعى من ذاكرتي مشهداً سينمائياً بديعاً. وهذه التأملات من وحي هذا المشهد العبقري الذي قام به الفنان الراحل عبد المنعم إبراهيم مرتدياً البدلة من أعلى والملابس الداخلية من أسفل والمذهلة زينات صدقي تكتشف أن من اعتقدت أنه دكتور هو مجنون، فقط عندما ينهض من مقعده.

 

كم مجنون لدينا مازالوا جالسين على المقاعد في مدن الإنتاج الكلامي. قد أكون حاقداً أو حاسداً أو جاهلاً ولكنني كونت فرضية عن أحد أهم أسباب حالة الفشل والتوتر والتشتت واللاعقلانية واللاوعي التي تغلف الحالة المصرية العربية الآن. ووجدتني في إطار هذه الفرضية أتوقف أمام ست شخصيات درامية تتقافز بانتظام على شاشات القنوات الفضائية. أحاول هنا أن أرسم ملامح تلك الشخصيات وأهم مساهماتها الفذة:

 

الخبير الاستراتيجي:

يشترك هؤلاء الخبراء في قدرة فذة على التنبؤ الاستراتيجي بأشياء لا تحدث أبدا. الأكثر تميزا أن هؤلاء جميعا وبصرف النظر عن ضعف قدراتهم التنبوءية، يستضافون يوميا على الشاشات

وهو عادة لواء انفصل عن العمل العسكري منذ عقود. ويشترك جميع الخبراء الاستراتيجيين في أنهم يقودون مراكز استراتيجية يتبين لاحقا أنها مجرد مكتب لاحتساء قهوة الصباح ويتشكل قوامها من الخبير وعم عبده فراش المكتب (أحيانا تكون أفكاره الاستراتيجية أكثر نضجا من معالي اللواء).

 

كما يشترك هؤلاء الخبراء في قدرة فذة على التنبؤ الاستراتيجي بأشياء لا تحدث أبدا. مثل سيطرة حماس على سيناء أو بدء الحرب الأهلية في مصر أو بدء التقسيم الجغرافي لمصر إلى عدة دويلات أو انتهاء قطر في ساعات. الأكثر تميزا أن هؤلاء جميعا وبصرف النظر عن ضعف قدراتهم التنبوءية، يستضافون يوميا على الشاشات.

 

المحلل السياسي:

في معظم الحالات هو رجل أيضاً ولكنه وبسبب سنه وظهوره التلفزيوني المتكرر، يتعرض لجرعات مكثفة من المكياج (بعضهم له صور إعلانية على الكباري والطرق السريعة حيث استخدم فيها كم من المكياج لم تستخدمه أليسا أو هيفاء في صورها الأخيرة).

 

القيمة الكبرى في المحلل السياسي هي قدرته الدائمة والبلاغة في استخدام مجموعة من المصطلحات أهمها: (المشهد الحالي، كل الأطياف، الطرح الأول، التيارات المنبثقة). وعادة ما تنتهي تحليلات المحلل السياسي بالجملة الرائعة: "المشهد الحالي ضبابي غامض ويصعب تحليله". وبسبب الدلالة العميقة لهذه الجملة، وصعوبة أن يقولها إلا رجلاً له رؤية ونظرة ثاقبة، يستمر المحلل السياسي في الظهور وإضافة القليل من المكياج.

 

الفقيه الدستوري:

يلعب الإعلامي دور الأب والام والمدرس ورجل الدين والمصلح الاجتماعي. وفي أداءه لكل هذه الأدوار وهو يخاطب الشعب المصري والعربي، فان كل النجوم الإعلاميين يشتركون في قدرة فائقة على العويل والصراخ والتبشير بانهيار مصر والشعب

وهو دائماً رجل حكيم مسن ترك الزمن بصمات غائرة على وجهه مما يجعله شجاعا، ومهما كان معدل ظهوره الفضائي، في الرفض الكامل لأمور المكياج (بعضهم استسلم لمطلب ممكن كارافتات مدندشة يا سيادة المستشار). ويتميز هؤلاء الفقهاء في أن أحدهم يقول بكل قوة وثقة وخبرة أن الوضع القانوني الدستوري لهذا الموضوع هو أبيض، ثم يليه الفقيه التالي الذي يملك نفس الثقة وهو يقول أن الوضع القانوني الدستوري لهذا الموضوع أسود. وبين بياض الفقيه الأول وسواد الفقيه الثاني لا نملك إلا الدعاء لهما بدوام الصحة والعافية ودندشة الكرفتات.

 

النجم الإعلامي:

وهو رجل أو امرأة، ويتميز بالقدرة على الحديث المنفرد خمسة أيام في الأسبوع لمدة ساعتين (مع ضرورة وجود إيباد وايفون وبلاك بيري أمامه)، ثم يلي ذلك ساعة للضيوف الذين يتحدثون فقط عندما يتوقف النجم لاحتساء الشاي.

 

ويلعب الإعلامي دور الأب والام والمدرس ورجل الدين والمصلح الاجتماعي. وفي أداءه لكل هذه الأدوار وهو يخاطب الشعب المصري والعربي، فان كل النجوم الإعلاميين يشتركون في قدرة فائقة على العويل والصراخ والتبشير بانهيار مصر والشعب والاقتصاد والتعليم والجيش والقناة والزراعة والرياضة. وهم جميعا ولمدة سنوات يحذرون من انهيار لا يأتي ولكنه قطعا يعطي مبررا لظهور جديد في حلقة قادمة جديدة وكاشفة.

 

الناشط السياسي:

هو رجل، سيدة، شاب أو فتاة. هناك سمة مشتركة لها دلالات عميقة بين النشطاء السياسيين وهي ارتداء الكوفية صيفا وشتاءا. وإذا ساعدك الحظ وخاصة إذا كنت من الناشطين الشباب فقد يسمح لك شعرك الطويل بعمل ضفيرة وعقدة الحصان تتوافق مع شعر ذقن متمرد منتفض.

 

من سمات النشطاء أيضاً، ومن منطلق الثورية والواقعية، استخدام صفات لوالدك ووالدتك فور معرفتهم أنك تريد أن تفهم ما يحدث أو أنك تقدم طرحا بديلا (تجربتي الذاتية في مقهى بلادي بالتحرير). العبقرية الحقيقية في كل النشطاء السياسيين أنك عندما تسأله ما هو المطلوب يجيب: "لازم نحقق أهداف الثورة" ثم يتلعثم قائلا: "آه ليه لا؟" وعندما تصدمه مستفسراً: "هي إيه الأهداف دي"، يعود مرة أخري لذكر صفات لوالدك ووالدتك!

 

كما يشترك النشطاء السياسيين في حبهم للديمقراطية وشفيق والجيش والسيسي والحرية والزند وإعطاء الفرصة للشباب والحزن على تهاني واشتراكية حمدين وارستقراطية البرادعي وكله في نفس الوقت. حالة النشطاء الحالية أيضاً تثير التساؤلات فجزء منهم تحول إلى مذيعين (نجم إعلامي). ومنهم من تحول إلى (محلل سياسي). أما معظمهم فقد اختار الحل الأكثر ثورية ونضالا وهو الانضمام لتفسير "الاخوان هم السبب".

 

الداعية الديني:

الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي والفقيه الدستوري والنجم الإعلامي والناشط السياسي والداعية الديني، هو الكيان الأكثر وجودا في حياة مصر والعرب الآن، وهو كيان لا أدري كيف عشنا آلاف السنين بدونه

استغلالا لحالة استياء من مظهر تقليدي متحفظ لرجل الدين الأزهري، بدأت منذ منتصف التسعينيات حالة من "ياي مش معقول بلدي قوي الشيخ ده، بيجبوهم منين؟". وبذكاء حاد أدرك مجموعة من حافظي الفاتحة أن أبواب الخير انفتحت ولن تغلق. ظهر الجيل الجديد يرتدي البدل الإيطالية والكرافتات الحريرية ويخطب لشباب النوادي الراقية.

 

"ياي كول أوي. ستايل يجنن". ودخل المجتمع في حالة "يلا نلعب دين". وأصبحت المنافسة بين سيدات المجتمع نجيب شيخ مين في السهرة؟ وبعدين نأكل السمك والجمبري المشوي ونصلي العشاء قبل ما نسهر في الشانزليزيه. زاد الزبائن والكتب والبرامج وتدفقت الملايين. ولكن الملايين وحدها لا تكفي وقرر الداعية الديني أن يخرج في رحلات للدعوة وخدمة الإسلام.

 

إثيوبيا والصومال وإريتريا، ما هذه الاقتراحات وأين هو النضال في تلك البقاع الموحشة عديمة الكاباتشينو. انطلق الدعاة الجدد إلى دبي وأبو ظبي والمنامة والكويت، وتفانوا في خدمة الإسلام. الجميل في هؤلاء الدعاة أن شجاعتهم في قول الحق كانت تماماً مثل شيوخ الأزهر ورجال الكنيسة تتوقف عند مبارك وعصابته. كما أنهم جميعا بعد ثورة ٢٥ يناير حكوا لنا حكايات خيالية عن الطرد والاضطهاد الذين تعرضوا له بسبب نضالهم ونصرتهم للحق.

 

هذا السداسي الرائع:

إنني كمصري فخور بهذا السداسي، يشرفني أن أتقدم لمن يمثلهم بكل آيات الشكر والعرفان. فلولاهم جميعاً لكانت مصر الآن على خطى مشروع حضاري يقربنا من الحالة الماليزية أو السنغافورية

الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي والفقيه الدستوري والنجم الإعلامي والناشط السياسي والداعية الديني، هو الكيان الأكثر وجودا في حياة مصر والعرب الآن، وهو كيان لا أدري كيف عشنا آلاف السنين بدونه.  تخيلوا ماذا كان يمكن أن يضيف هذا السداسي لو وجد أيام الحضارات الفرعونية أو الإسلامية.

 

إنني كمصري فخور بهذا السداسي، يشرفني أن أتقدم لمن يمثلهم بكل آيات الشكر والعرفان. فلولاهم جميعاً لكانت مصر الآن على خطى مشروع حضاري يقربنا من الحالة الماليزية أو السنغافورية. ولكنهم، وبرؤيتهم الثاقبة جعلونا نتفوق على النمور التشادية والبوركينوفاسية والناميبية.

 

ويكفينا فخرا أن هذا السداسي حقق المعجزة وجعل المواطن المصري بكل قطاعاته يترك عمله وبيته وعائلته ويتفرغ للنظر، فارغاً فمه، إلى شاشة التلفزيون لمدة لا تقل عن سبع ساعات يوميا ينهل فيها من معين لا ينضب، شديد الثراء بتنبؤات الخبير واستنتاجات المحلل وفتاوى الفقيه وتأوهات الناشط، وصرخات الإعلامي وتحذيرات الداعية. نحن حقا أكبر مؤامرة على أنفسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.