شعار قسم مدونات

شقق سكنية أم مخازن بشرية

blogs شقق سكنية

منذ أكثر من أربعة عقود وبالتحديد في عام 1972 استيقظت أمريكا على خبر تفجير مشروعا إسكانيا عملاقا. لم يكن التفجير عملا إرهابيا ولكنه كان عملا رسميا أشرفت عليه الحكومة المحلية لولاية ميزوري. على وجه الدقة في مدينة سانت لويس وفي الخامس عشر من يوليو 1972 في الساعة الثالثة عصرا تم استخدام الديناميت لتفجير المشروع الإسكاني في بروت إيغو المرفوض من المجتمع حيث أطلقت عليه طلقة الرحمة بتعبير شارلز جينكز الناقد المعماري الشهير.

 

منذ هذا التاريخ وطوال عقد السبعينات تعددت أخبار هدم مشروعات إسكانية مختلفة موزعة في أنحاء العالم تأكيدا لرفض العمارة الميكانيكية اللاإنسانية الفقيرة جماليا والمملة تشكيليا. أن ما حدث في سانت لويس ميزوري لم يكن فقط سببا لإنهاء حركة الحداثة في العمارة والعمران ولكنه كان صرخة فارقة ضد فكرة القولبة والنموذج المتكرر للمبنى السكني بميكانيكية باردة لأماكن مطلوب منها أن تحتوي داخلها عائلات وذكريات وعواطف ونضال حياة ونسميها مساكن ولكنها أوعية لتعليب البشر.

أما ما لم نتعلمه نهائيا في مدننا الشرق أوسطية من أحداث هدم مساكن سانت لويس فهو أن هذه المكعبات الباردة المرتفعة الخالية من الحياة المظلمة المتلاصقة الفاقدة للتعبير عن ذاتية الإنسان لا تستحق أبدا أن يتكرر بنائها. المذهل أننا مازلنا نبنيها كل يوم في عالمنا العربي بل ونتشدق بها على أنها إنجازات ونتمادى في التضليل التسويقي فنسميها أبراج الياسمين وعمارات الشمس ومجمعات الزهور. مباني وحشية تنقض على المدينة وتساهم بكل سبق الإصرار والترصد في تشويه الصورة البصرية لسياقات عمرانية كانت تبدو الأجمل والأفضل من عقود قليلة مضت.

عمارات متشابهة متتالية تتحول فيها العائلات إلى أرقام وتتحول الشقق إلى مخازن حقيقية للبشر وتكون في أحيانا كثيرة مخازن عديمة الضوء الطبيعي، ضعيفة التهوية
عمارات متشابهة متتالية تتحول فيها العائلات إلى أرقام وتتحول الشقق إلى مخازن حقيقية للبشر وتكون في أحيانا كثيرة مخازن عديمة الضوء الطبيعي، ضعيفة التهوية

تأمل حالة مثل أحياء جاردن سيتي أو المهندسين أو مصر الجديدة في القاهرة وما حدث بها من أعلى درجات العشوائية الغنية الرسمية التي تتجاوز بمراحل ما يسمونه خطأ وظلما عشوائية الفقراء. قد أتفهم الأسباب التي تجعل البعض نتيجة عدم إدراك وعدم فهم يقبل استخدام هذه الجرائم السكنية لإيواء الفقراء ولكني لا أفهم أبدا كيف يقبل إنسان حر محب للحياة متفهما لمعنى وقيمة المسكن أن يضع مدخرات حياته في مخزنا بشريا في الدور الثامن من البرج العاشر من الحي الرابع من مدينة تسمى حدائق الأمل أو تتطلع إلى العالمية فقط بأن تسمي هذه الجرائم المعمارية الإنسانية بيفرلي هيلز الجديدة أو بالم هيلز المعدلة.

 

مازلنا في عالمنا العربي الشرق أوسطي نعاني حيث يجتهد الإنسان ويتغرب سنوات ليدخر ثم يحقق الحلم ويشتري الشقة. عمارات متشابهة متتالية تتحول فيها العائلات إلى أرقام وتتحول الشقق إلى مخازن حقيقية للبشر وتكون في أحيانا كثيرة مخازن عديمة الضوء الطبيعي، ضعيفة التهوية حيث تنعدم الحياة الاجتماعية وتتضاءل علاقات الجيرة وتتدهور ملامح الانتماء.

تأمل المعماري المصري الراحل الرائد حسن فتحي مؤلف كتاب عمارة الفقراء وهو يبدي إعجابه الشديد بمقولة أحد أبطال رواية القلعة للأديب أنطوان دو سانت اكزوبري حيث يقول شيخ الطوارق في الصحراء منزل أبي الذي كل خطوة فيه لها معني. ما أبدع هذه المقولة التي تعبر حقيقية عن نظرة أعمق للمسكن من مجرد غلاف للحماية إلى نطاق إنساني وحيز عاطفي مسكون بالبشر ومسكون أيضا بالمعاني والمشاعر والأفكار. ما أبهر حسن فتحي حقيقة هو فهم الصحراوي البسيط لقيمة مكانه وحضارته وثقافته وتقديره لما يعبر عن شخصيته ووجدانه.

 

أحيانا أواجه بفكرة أن الدول العربية بها أزمة إسكان طاحنة وبالتالي لا يوجد ترف للتفاعل مع العائلات فهم لا يحتاجون مسكن بل مأوى يحميهم. هل هذا تبريرا كافيا لإسقاط حقوقهم وإنسانيتهم بل وأدميتهم

هذا المنزل المحمل بالمعاني هو مسكن ملهم ومنزل قريب من القلوب. نحن لا نعيش فقط اغتراب مع حضارتنا وثقافتنا ولكن أيضا مع إنسانيتنا التي نفقدها تدريجيا من وجودنا الدائم في هذه المخازن البشرية محدودة الضوء شحيحة التهوية صاروخية التكلفة. أننا أيضا نرتكب بتكرار هذه الأنماط من المخازن البشرية جريمة في حق الأجيال الجديدة وهي جريمة ثنائية المستوى. فمن جهة فإن طفولتهم في تلك الفضاءات المشوهة تظل طفولة محدودة القيمة وفقيرة المعاني. ومن مستوى آخر تفقدهم الحس الجمالي وتجعلهم ومن طفولتهم يقبلون القبح وينسجمون معه وتجهض كل أحلامهم بالتجارب المكانية الجميلة الباعثة للأمل والتفاؤل وحب الحياة وتقدير الإنسان والجمال.

أنظر أيضا كيف نبني هذه المساكن للمجهول لا نعلم من سيسكن فيها ولم نتحاور معهم ولم نتعرف على احتياجاتهم. قديما في كل بلاد العرب كانوا يبنون لعائلة ما فهذا بيت أل بو محمد وهذه دار الحاج حسن وهذه حارة أولاد فاضل وهذا فريج الهاجري أما الأن فقد حولنا البشر إلى أرقام فنقول عمارة بها عشرين وحدة لإسكان عشرين عائلة ولكننا لا نتساءل أبدا من هم لأنه تساؤل اسقطناه من منظومة تصميم وبناء المسكن العربي المعاصر.

 

أحيانا أواجه بفكرة أن الدول العربية بها أزمة إسكان طاحنة وبالتالي لا يوجد ترف للتفاعل مع العائلات فهم لا يحتاجون مسكن بل مأوى يحميهم. هل هذا تبريرا كافيا لإسقاط حقوقهم وإنسانيتهم بل وأدميتهم. ثم أن هذا المنطق يتداعى وأنت توثق نفس منهجية التصميم والتخطيط والبناء وهي تتبع في بناء عمارات سكنية فاخرة لعلية القوم يدفعون للحشر داخلها أرقاما تبلغ مئات الألوف من الدولارات. كما إن الدراسات الإحصائية أثبتت أن الكثير من المدن والدول العربية ليس بها عجز كمي في المساكن ولكنه عجز في العدالة والالتزام بأن المسكن حق للمواطن. وصدقت مقولة ينبغي أن تبدأ حقوق الإنسان في المنزل كما ينادي إدواردو غاليانو الروائي البارز.

يجب أن نتوقف عن بناء العواصم الجديدة والأبراج اللامعة في مدننا وأن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون لدفء العائلة ولقيمة الجماعة
يجب أن نتوقف عن بناء العواصم الجديدة والأبراج اللامعة في مدننا وأن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون لدفء العائلة ولقيمة الجماعة

عشرات الألاف من المعماريين العرب من المفترض ان تكون لديهم الطاقة والقدرة لتقديم طرحا مغايرا يتجاوز القولبة الميكانيكية ويفرز أفكارا ومداخل مبدعة لتحويل المساكن إلى ملتقيات إنسانية عائلية تلهم من دروس الماضي ولا تتنازل عن معطيات العصر. مئات من البحوث في كل الجامعات العربية تحذرنا من استمرار التعامل الكمي مع المسكن وتنبه إلى الفجوة التصميمة التي تؤدي إلى فجوة أخلاقية مجتمعية عندما تعلب العائلات في غرف ضيقة مظلمة ثم نتساءل من أين تأتي الكراهية والجريمة والعنف والتطرف.

 

إن بناء المجتمع لمساكنه هو في الواقع تعبيرا عن منهج تفكيرنا في وجودنا وعن الحياة من حولنا. يذكرنا أليخاندرو أرافينا المعماري التشيلي الحاصل على جائزة بريتزكر في العمارة عام 2016 ومنسق بينالي فينيسا للعمارة في نفس العام بأهمية المسؤولية المجتمعية وبأن فلسفته المعمارية تعتمد على إشراك حقيقي للمجتمع والتواضع أمامه ليساهم أفراده بلا تحفظ في عملية تصميم وتخطيط مساكنه. ثم تأمل مقولة الراحلة المعمارية المبدعة زاها حديد لا أعتقد أن العمارة فقط هي عمل المأوى ولكنها يجب ان تثيرك وتسعدك وتجعلك تفكر.

 

وإذا كانت مقولة ونستون تشرشل نحن نشكل مبانينا ثم بعد ذلك مبانينا تشكلنا مازالت تثير فضولنا فقد يبدو من الجوهري أن نتوقف عن بناء العواصم الجديدة والأبراج اللامعة في مدننا وأن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون لدفء العائلة ولقيمة الجماعة ولتأكيد أدميتهم ولأهمية إمتاعهم بملامح من الجمال والرقي. مساكن تتيح للجميع إمكانية أن يكون لكل خطوة فيها معنى بل ومعاني يحتفظون بها للأبد في قلوبهم وعقولهم. نريد تصميم مساكن نسكن إليها لا مخازن بشرية نعلب داخلها حتى يتوقف تساؤلنا الدائم لماذا أصبحت مدننا قبيحة ونفوسنا أشد قبحا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.