شعار قسم مدونات

الرسالة الخامسة في تمام الخامسة

blogs - latter
عزيزي يحيى..
أهدتني جدتك – أمي- قبل عدة أشهر مجموعة من العقود النادرة، من اللؤلؤ الخالص غير المصنع، يستخرج هذا اللؤلؤ من المحيط من قلب الصدف، اشترته أمي من الحج قبل ٢٠ سنة تقريبًا وبقي على حاله، كما تعرف – أو ربما ستعرف لاحقًا – أن اللؤلؤ الذي يباع الآن هو لؤلؤ مزارع يأتون بالصدف ويضعون ذرة من التراب ويبدأ الكائن الحي بنسج اللؤلؤة حول الصدف.

في المحلات لم يعد هنا لؤلؤ حر حقيقي يباع، في الحالين يقول الناس لؤلؤ.. لكن قلة قليلة تعرف الفكرة. اللؤلؤ الحقيقي فريد، فكل لؤلؤة لا تشبه الأخرى أبدًا.. مستحيل، أما لؤلؤ المزارع فتتشابه اللآلئ كلها مدورة وكأنها خرجت من مصنع واحد.

اللؤلؤ الحقيقي يبذل الصيادون جهدًا رهيبًا للحصول عليه، حجمه في الأغلب صغير جدًا ودقيق وبديع الشكل وفي كل لؤلؤة تجد انعكاس ألوان قوس قزح. أما اللؤلؤ المصنع فأحجامه كبيرة وبراقة وبلا قوس قزح على الأغلب.

وإني كلما نظرت لهذا اللؤلؤ ابتسمت.. وفكرت فيك. أراك يا يحيى كاللؤلؤ الذي أهدته لي أمي.. طبيعي وحر ومتفرد ولا شبيه لك.. قد أعطاك الله من روحه وبث فيك من خلقه، أعلم أنك لست الأجمل لأنه ليس هناك "الأجمل" في عالم البشر.. لكن جمالك يأسرني بشكل شخصي، جمال انبعاجاتك المختلفة عن الآخرين التي تكمل من لمعانك وتفردك.. ميزاتك التي تفرح قلبي وتدهشني.. وتأخذني لعالم جديد..

ستكون أنت وحدك في عيني كل الناس. وستكون أنت وحدك كل القلب تشاركه مع أبوك ففي القلب لكما مكان لا ينازعه سواكما.
ستكون أنت وحدك في عيني كل الناس. وستكون أنت وحدك كل القلب تشاركه مع أبوك ففي القلب لكما مكان لا ينازعه سواكما.

أعاهد نفسي أن أحافظ عليك كما أنت، وها أنا أقول لك.. يا يحيى لن أقول لك لماذا لست مثل فلان، ولن أقول لك أبدًا يا ليتك مثل علان، ولن أقول لك أبدًا انظر ما فعل ترتان.. ستكون أنت وحدك في عيني كل الناس. وستكون أنت وحدك كل القلب تشاركه مع أبوك ففي القلب لكما مكان لا ينازعه سواكما.

أنت يا يحيى مسؤول عن نفسك وعن قراراتك، لا دخل لي بها، دوري أن أجتهد وأغرس وأوجه من بعيد، لكني لن أمد يدي فيك، وأنا هنا أقول لك لا أنتظر منك ردًا لشيء، لا أرسم لك طريقًا وأنتظر اتباعك له، بل أنتظر أن تجتهد كما اجتهدت أنا وتجاهد لتصل لحقيقة نفسك فتصل بإذن الله لحقيقة ربك، أن تسعى وتحسن في كل عمل لك، فيكون الله معك، فلا تضل ولا تشقى وأنا أوقن في وعد الله المجيد وأن "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ".. أجاهد وأحسن ما استطعت، وهو المطلوب منك كذلك.. أما النتيجة على الله يا ولدى. وما ضاع من تركها على الله.

في طريقك يا يحيى ستقابل الكثير من المزعجين والمحبطين، ستجد الكثير من الألسنة بكلام كثير هنا وهناك، ربما تشعر أحيانًا بأنك تغرق في بحر من الكلمات ولكنك إن تذكرت "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" ستكبر كثيرًا، صمتك سيملكك الحكمة بين يديك وهي المبتغى والمطمح.. فتمر على كل دنيئة وزور و لغو فلا يعلق بروحك إثم ولا رجس.. فتظل روحك طاهرة كما هي وهل هناك من شيء أسمى وأجل أن تظل طاهرًا نظيفًا؟ ويا صغيري تذكر أنه لا حق إلا الله. ولا حق إلا كتاب الله.

يا ولدى أنت لؤلؤة ثمينة، فلا تقبل لنفسك بالدون، بل لا تقبل إلا كل عالي، وعلى قدر الطلب يكون الجهد والثمن.. وعلى الجنة.. فلا شيء غال

في طريقك يا يحيى ستقابل من يفخر بنسبه، وبأهله وبماله وبملابسه وبعلمه، فتذكر دائمًا أنه لو اجتمع لك جمال يوسف ومال قارون، ونساء هارون، ونسب محمد صلى الله عليه وسلم وجاب اسمك الآفاق وارتفع ذكرك حتى ما صار أحد يجهلك، ثم كُب بك إلى النار فما أغنى عنك ذلك من الله شيئًا فوقتها أنت خاسر الخسران المبين.

تواضع يا بني، لا عن قلة، ولا عن فقر ولا عن ضعف ولا عن سوء نسب -حاشاك- بل لأن الله قال "إنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا"
يا ولدي.. في دنياك كل خسارة معوضة، إلا خسارة دينك.
يا ولدي.. في دنياك كل مال ضائع معوض، إلا حق الله في مالك.
يا ولدي في دنياك كل مفقود معوض، إلا فقد الله عزوجل.
يا ولدي في دنياك كل وقت ضائع لا يعوض.. إلا ببركة ذكر الله وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يا ولدي أحبك حتى يفيض الحب من قلبي.. فاسع، واعلم أنك فريد، خلقك الله وبث فيك من روحه، فلا تسمح لأحد أن يشعرك بغير هذا، كرمك فمن يهينك؟ إلا أن تهين نفسك.. فلا تفعل.
يا ولدي في عيد ميلادك الخامس رأيت اللآلئ وطلبت مني أن ترتديها، وكانت قد عُقدت بخيط رفيع، ولما رفضت لأني خفت عليها، نمت على ذراعي وعضضت العقد حتى انفرط.
لم أغضب منك.. وقلت في نفسي، سأصلحها.. وفكرت أنك معي ورفيقي في رحلتي.. فلا حُزن بوجودك دائم.. فرضيت وهدأت نفسي..
يا ولدى أنت لؤلؤة ثمينة، فلا تقبل لنفسك بالدون، بل لا تقبل إلا كل عالي، وعلى قدر الطلب يكون الجهد والثمن.. وعلى الجنة.. فلا شيء غال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.