شعار قسم مدونات

لعنة حب الوطن

blogs معاناة فتاة

لا زلت أتذكر أول يوم لي في المدرسة، حملت حقيبتي وتوجهت برفقة أخي وبنات عمي للمدرسة، كانت الساحة تعج بأطفال من مختلف الشرائع العمرية، وقفنا بعدها في طوابير عدة كل حسب مستواها الدراسي، وفجأة بدأ الجميع بترديد ما سميناه أنذاك نحن أطفال المستوى الأول معزوفة عن الوطن، بدأ الجميع بتحية العلم الوطني وسط ذهولنا نحن وتساؤلنا عن الكلمات ومعناها. كانت تلك العادة الصباحية التي نفتتح بها يومنا المدرسي، ترى كل من في الساحة يردد كلمات يحفظها عن ظهر قلب ولكنه لم يفهم معناها قط.

مرت الأيام، وصرنا نتساءل عن سبب قيامنا بتحية الوطن كل يوم وكل صباح، فيكفي أن نقوم بها في بداية الأسبوع ونكتفي، بدل وقوفنا كل صباح تحت تهاطل الأمطار وحدة البرد وحرارة الشمس، فكان الجواب من معلمنا أنذاك أن تحية العلم ليس إلا جزء بسيط من إعلاننا لمحبتنا وإخلاصنا لوطننا، وطننا الذي يحبنا ويحفظ لنا حقوقنا ويوفر لنا العيش في أمان وطمأنينة.

لكنني اليوم لم أعد أدري إن ما كان الوطن يحبني أو ينبذني، أواجب هو هذا الحب، أم هو مجرد شعار نرفعه بغية الترويح عن النفس، لم أعد أدري إذا ما كان الوطن قد أحبني وأنا صبية صغيرة كل ما يشغلني هو اللعب ومشاركة أقراني ألعابهم، ولكن الوطن لم يقدم لي ملعبا أو منتزها أو مكانا للعب كل ما قدم لي كان من عطايا وجود أبي.

 

وطني يا سادة أصبح المصدر الرئيسي للإرهابيين، شباب غسلت أدمغتهم وحشرت بأفكار سوداء عن أماكن كانوا يعتبرونها سابقا المنقذ من قسوة الوطن

لم أعد أدري إذا ما كان الوطن قد أحبني وأنا التلميذة، لم يوفر لي أنذاك مدرسة بجميع مرافقها ولكنني كنت محظوظة عندها، فالمدرسة كانت لا تبعد عن حينا كثيرا، بينما هناك من كان يمشي الكيلومترات الطويلة. لم أعد أدري إذا ما كان الوطن أحبني وأنا المريضة التي تبحث عن الدواء، أتذكر يومها الفوضى التي كانت تعج المشفى، رائحة الموت المنتشرة، أجساد هزيلة تنتظر دورها ليكشف عنها الطبيب، الأخير لن يفحصك مجانا برغم من تواجدك في مرفق عمومي، تصعد لتتمدد على فراش مترهل، يعود تاريخ اقتنائه إلى سنة بناء المستشفى، رائحة نتنة تنبعث من المرافق الصحية، تنادي الممرضة فتأتيك امرأة لم يبقى في قلبها ذرة شفقة.

لم أعد أدري إذا ما كان الوطن قد أحبني وأنا الفتاة ذات العشرين ربيعا التي تستقل وسائل النقل العام، حيث الذئاب البشرية تنتظر فريستها لتجعل منك فريسة تطفئ بها عطشها، بحجاب كنت أو من دونه، فالذئاب لا تهمها التفاصيل، غايتها واحدة. لم أعد أدري إذا ما كان الوطن قد أحبني وأنا التي سرق مني هاتفي وحقيبتي فقط لأنني قررت الذهاب إلى مكان ما، ففي وطني أماكن محظورة لا يجب أن تطأها قدامك، ففيها يسود قانون الغاب في ظل حماية من رجال الأمن.

لم أعد أدري إذا ما كان الوطن قد أحبني ووفر لي مكانا لأفرغ فيها طاقتي الشبابية وأمارس فيه هوايتي، كل ما وفره لي هو مخدرات على جميع أشكالها وأنواعها. لم أعد أدري إذا كان الوطن سيحبني إذا أنجبت أطفالي، لم أعد أدري إذا كان الوطن سيحبني حينما أصير طاعنة في السن، لم أعد أدري إذا كان الوطن سيحبني ساعة لفظي لأنفاسي الأخيرة ورحيلي عنه.

لم أعد أدري أعاتبك عن ماصرنا إليه، أم أحبك بكل نواقصك وعيوبك، كثيرون هم من يحبون أوطانهم ويتباهون بها، على عكسنا نحن اليوم، فوطني يا سادة أصبح المصدر الرئيسي للإرهابيين، شباب غسلت أدمغتهم وحشرت بأفكار سوداء عن أماكن كانوا يعتبرونها سابقا المنقذ من قسوة الوطن، وطني أصبح المنتج لشباب هائج متوحش همه الوحيد إشباع رغبته المتأججة سوءا كان الضحية طفل أو رضيعا أو شابة أو شابا أو كهلا أو حيوانا، وطني أصبح من أوائل المتصدرين لقائمة استهلاك الكحول والمخدرات، وطني اليوم أصبح مكانا للجريمة بشتى أنواعها، وطني اليوم أصبح رقعة غير ءامنة، انعدمت فيه أساسيات العيش الكريم، فانتقل من سيء إلى أسواء.

لعنة أن تولد في وطن كهذا ستطاردك حتى يوم مماتك، وستلاحق بعدها أطفالك، لعنة أن تعيش في وطن تعيس لا يبالي بك لا يسأل عنك، وطن ينتظر حبك ويبادلك القهر والمذلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.