شعار قسم مدونات

من العجمي لمراسي.. مصايف مصر والتحولات الاجتماعية

blogs - الاسكندرية
اعتقادي الكامل أن ألبرت آينشتاين عالم الفيزياء الفذ كان يتحدث عن الأفراد عندما عرف الغباء بأنه تكرار ما فعلته سابقا بالضبط وتوقع نتائج مغايرة. هذا الاعتقاد سببه أن الفرد يملك عقلا واحدا وقدرات محدودة ولكن على مستوى الأمم فإنها تملك رصيد من العقول التي تجعل تكرار الخطأ جريمة كبرى. من هذا المنطلق أندهش جدا وأنا أتابع مسلسل الانتقالات الصيفية المستمرة لأكثر من ستة عقود على السواحل الشمالية المصرية.

في الزمن البعيد كان اصطياف المصريين في سواحل الإسكندرية وبلطيم وجمصة ورأس البر وكلها كانت مصايف عائلية بسيطة منطق الحياة بها أقرب إلى حالة المعسكرات الترفيهية، بل إن بعض المصايف لم يكن بها إلا عشش متواضعة من البوص ومواد البناء التقليدية ولكنها كانت محملة بدفء العائلات ومرح الصيف. كانت المتع الصيفية محدودة ولا تتجاوز يوم من السباحة في مياه نقية قد يصاحبها محاولة للوصول إلى البراميل!! ثم عشاء من السمك المشوي بالردة ثم الذرة المشوية على الكورنيش أو الفطير المحلى بالسكر في تمشيات المساء قبل الذهاب للسينما الصيفية المفتوحة.

نسى المصطافون بساطة المصيف وتحول شهري يوليو وأغسطس إلى ما يشبه مباريات المصارعين حتى الموت في الكولوزيوم الروماني لإظهار من هو الأكثر ثراء وترفا.

باستثناءات محدودة جدا أهمها حالة المنتزة بطابعه الملكي فقد كانت فكرة البساطة والإتاحة هي السائدة في مفهوم العائلة المصرية للاصطياف. حدث التطور الأول مع إنشاء حي المعمورة وكبائنه التي أحدثت الثورة النوعية الأولى في عالم الاصطياف في مصر. فقد بدأت فكرة الامتلاك وشراء العقار لاستخدامه في عطلات الصيف. انتبه أهل البدو في المنطقة إلى التوجه الجديد والتغير النوعي في مفهوم المصريين للاصطياف وبدأت تجارة لا رسمية للأراضي في مناطق العجمي. واندفع علية القوم للشراء وبناء بيوت بدأت بسيطة ثم تطورت تدريجيا وخاصة ما بعد حقبة الانفتاح الاقتصادي حتى تحول بعضها إلى قصور مسورة كقلاع غامضة في شوارع ترابية ضيقة.

وللمرة الأولى تبدأ فكرة التملك الوحشي وحرمان الآخر وصرف مبالغ طائلة للتباهي والتمعن في إظهار الثراء في بيت مصيفي يستعمل لعدة أسابيع كل عام. هذه الحالة أنتجت المنطقة العشوائية الأولى في مصر كلها بامتياز، العجمي مصيف الطبقة الراقية. هذه المنطقة التي سبقت كل المناطق التي سكنها الفقراء في كل محافظات مصر بعد عجز كامل للحكومة في أن توفر للملايين سكن لائق وسميت المناطق العشوائية في الخطاب الرسمي والأدبيات المنشورة.

وفي تطور غير مسبوق إقليميا أو عالميا تولت الحكومة فكرة الاستمرارية في التنمية المشوهة للساحل الشمالي عندما أعلن وزير الإسكان حسب الله الكفراوي خطته لإنشاء جهاز القرى السياحية التابع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة. وكانت البداية مع بناء ثلاثية من قرى المصايف العملاقة والتي صرح الوزير بأنها ستكون بداية لوضع الساحل الشمالي على خريطة السياحة العالمية وخلق مجتمعات عمرانية متكاملة تخفف عن المدن الكبرى. ولإضافة هذه اللمسة العالمية سميت القرى الجديدة بأسماء مناطق تصلها تدفقات سياحية عالمية في إسبانيا وهي مراقيا وماربيلا ومايوركا ومارينا.

undefined

تزامنا مع فكرة تبني الحكومة لفكرة تقسيم أراضي الساحل الشمالي وتحويلها إلى فيلات صيفية، اندفعت الشركات العقارية والتنظيمات المهنية للسيطرة على الأراضي وبناء المزيد من الفيلات والشاليهات. نسى المصطافون بساطة المصيف وتحول شهري يوليو وأغسطس إلى ما يشبه مباريات المصارعين حتى الموت في الكولوزيوم الروماني لإظهار من هو الأكثر ثراء وترفا. كما بدأت ظاهرة الانفلات الأخلاقي والقيمي والسقوط الاجتماعي الكامل بحجة "ده صيف والناس عايزه تتبسط". فجأة تحول الساحل الشمالي البديع من كنز طبيعي خلاب قادر على اجتذاب المليارات إلى شريحة تتناثر عليها آلاف الفيلات والشاليهات والعمارات السكنية المشوهة في أغلبها تصميميا وتشكيلا وأسلوب حياة.

تخيلوا كم الاستثمارات التي أهدرت على الساحل الشمالي من منطقة العجمي إلى التلال والمراسي.. وإلخ إلخ، والتي لا تساهم في تنمية اقتصادية أو مجتمعية حقيقية.

نسق آخر شديد الاهمية تبلور في الساحل الشمالي وهو الانتقالات الدورية المكانية. حقا فإن الفئة القادرة الراغبة في إظهار مظاهر الثراء وتكثيف المرجعية الغربية التحررية واستدعاء نماذج مدن ساحلية عالمية مثل كان ونيس وموناكو، هي فئة محدودة ومن ثم فإنها تعاملت مع الساحل من منطلق فكرة الموضة الموسمية. نفس الفئة التي شوهت منطقة العجمي هي التي انتقلت إلى مراقيا ومرابيلا ثم صدمها تدفق فئات أقل منها ثراء وتحضرا (تنتشر أفكار العنصرية والطبقية في أزهى صورها). توجهت المجموعة إلى مارينا وحتى في مارينا حدثت انتقالات من المرحلة الأولى إلى الثانية إلى الخامسة هربا من تحول كل مرحلة إلى مصيف "بلدي" تبعا للتعبير والتبرير السائد.

منذ عقدين بدأت مرحلة ما بعد مارينا (أسطورة وزير الاسكان إبراهيم سلمان) وانتقلت نفس الفئة الى سياق جغرافي جديد على الساحل الشمالي بدأ من مناطق أبرزها خليج سيدي عبد الرحمن وخليج رأس الحكمة ومشروعات غزالة وهاسيندا ومراسي وتلال. المذهل أن الرأي السائد لهؤلاء المنتقلين عندما تحدثهم عن المراحل السابقة، فيأكدون أن الإسكندرية أصبحت مدينة قبيحة مزدحمة والعجمي عشوائية بدون مجاري ومراقيا وماربيلا ومعظم مارينا متدنية المستوى ولا تليق بنا كصفوة المجتمع، ويضيف بعضهم منتشيا الموضة الآن ما بعد العلمين. إذن لن أندهش في خلال عشر سنوات أو أقل أن تتحول الموضة الجديدة إلى منتجعات السلوم وأظن أنه في خلال عشرين عاما سيتحدث هؤلاء الصفوة عن جمال المصيف في مراسي بنغازي وتلال الزاوية وهاسيندا مصراته على الشواطئ الليبية.

أعود إلى آينشتاين وتعريفه للغباء وأقول: ألم يصرخ المخططون الوطنيون والأكاديميون المخلصون على مدار الأربع عقود الماضية لوقف إهدار الساحل الشمالي وتحويله إلى غابة خرسانية تتدفق بها الحياة فقط لمدة ستة أسابيع، بينما تتحول إلى شريحة بامتداد مئات الكيلومترات من الكتل الخرسانية المظلمة المسكونة بالأشباح وطيور الظلام باقي العام؟ تخيلوا كم الاستثمارات التي أهدرت على الساحل الشمالي من منطقة العجمي إلى التلال والمراسي.. وإلخ إلخ، والتي لا تساهم في تنمية اقتصادية أو مجتمعية حقيقية، بل بالعكس أخرجت الساحل الشمالي من منظومة السياحة العالمية (إجمالي تكلفة مارينا 48 مليار دولار أمريكي). تخيل بلد تمتلك ساحل رملي ذهبي على مياه تركوازية وجو معتدل وشمس مشرقة لمدة أكثر من ثمانية أشهر كل عام ولا يدخلها سائح واحد أو تقع على خريطة السياحة الشاطئية العالمية!

هل انتهت القصة؟ أبدا فنحن مخلصون جدا لآينشتاين ونتفوق على الجميع في تأكيد مصداقية تعريفاته، وها نحن نعلن عن العلمين الجديدة "أسطورة وزير جديد" لنحول منطقة بديعة على شاطئ مصر الشمالي ومحملة بأبعاد تاريخية فارقة لكل العالم إلى غابة من الخرسانة. أتأمل هذا الإصرار وما زلت أكرر سؤالي: كيف فشلنا كل الفشل وعلى مدار عقود طويلة في أن نجعل الساحل الشمالي مقصدا سياحيا إقليميا وعالميا لشهور طويلة بدل من حياة محدودة محلية لمدة ستة أسابيع كل عام؟ لا أظن أنني مبالغا إذا ما قابلت صديق لك من علية القوم المسئولين -بأنانيتهم المفرطة- عن تدمير مصر ويقول لك الصيف يجنن في هاسيندا بنغازي وعندما تقول له ماذا حدث لبيت هاسيندا مصر وفيلا مراسي وشاليه التلال، سيرد فورا: لا يا راجل بعت كله، دي بقت بلدي قوي.

نحن أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى واحد من أجمل شواطئ العالم الذي فقدناه ودمرناه وما زلنا مستمرين في تدميره مع سبق الإصرار والترصد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.