شعار قسم مدونات

هل تسري علينا أحكام الرقيق؟

blogs الحرية

عندما تنظر لخريطة العالم العربي، تتشكل أمامك هيئة طائر، الجسم مصر، وجناحان: شرقي، وغربي، هكذا كان يتأمل جمال حمدان جغرافيا العرب، طائر رابض على الخريطة، لكنه مثقل بالعبودية ممنوع من التحليق.

 

في التعريف الفقهي يمكن القول بأن الحر: هو المالك لأمر نفسه، وبذلك تسري عليه أحكام الأحرار، أما إذا فقد هذا الشرط، وبات غير مؤهل لامتلاك أمر نفسه، التي صارت موكولة لغيره، يسيرها كيف يشاء.. فما الحكم؟ الجواب: تنطبق عليه أحكام الرق. فكل قيد يحد من حركة الإنسان استرقاق من نوع ما، وكل سيطرة تنزع منه استقلاله نمط من العبودية، لأن الأصل كما قال ابن قدامة‏:‏ في الآدميّين الحرّيّة.

 

هنا نسأل بطريقة الفقهاء: هل الشعوب العربية ينطبق عليها المعنى الشرعي للرقيق؟ تواجهنا مشكلة أو معضلة الملكية، العبد القديم كان يسترق بيعا وشراء بصكوك، ومن موارد تبدو مشروعة كالحروب والأسر، لكن العبد الجديد قد تكون ملكيته لنخبة سياسية أو قبلية أو طبقة، يعني تنوعت القيود والطير واحد.

 

تناول الفقه الإسلامي بعمق وتفصيل المراكز القانونية لعلاقة السيد والعبد عتقا ورقا، ولم تتعداه إلى رق الأنظمة والطبقات وكلها قيود تغل الإرادة، وكانت أكثر رحابة في تصريف مفاهيم
تناول الفقه الإسلامي بعمق وتفصيل المراكز القانونية لعلاقة السيد والعبد عتقا ورقا، ولم تتعداه إلى رق الأنظمة والطبقات وكلها قيود تغل الإرادة، وكانت أكثر رحابة في تصريف مفاهيم "التحرر" و"الانعتاق"
 

وإذا كانت الغارات القديمة على الآمنين هي مورد العبيد، فهل ينظر للحكم القمعي والانتخابات المزورة كنوع من الإغارة وضرب من قطع الطرق. كثيرا ما كنت أتخيل مصنفات فقهية تبدأ بكتاب الحرية والتطهر من العبودية، لكن كتب الفقه عادة تبدأ بفقه الطهارة.

 

وإذا كان الفقه الإسلامي تناول بعمق وتفصيل المراكز القانونية لعلاقة السيد والعبد عتقا ورقا، ولم تتعداه إلى رق الأنظمة والطبقات وكلها قيود تغل الإرادة كذلك، فان التطبيقات السياسية الإسلامية كانت أكثر رحابة في تصريف مفاهيم "التحرر" و"الانعتاق" في إطار تمظهرات تتخطى علاقات الأفراد، إلى علاقات النظام بالأفراد.

 

النبي صلى الله عليه وسلم أطلق خصومه أو "الطلقاء" ورفع أي قيد سياسي أو قانوني عنهم وأعطاهم حق الاختيار والانعتاق، بحكم أنه الحاكم الجديد لمكة والمنطقة العربية، وكذلك الفاروق عمر عندما ربط بين الاستعباد كرق سياسي والحرية كقدر رحمي وولادة الإنسان الحر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" [1]. هذا يعني أن هناك نوافذ أخرى في الثقافة الإسلامية تعاملت مع الانعتاق والرق من منظورات الإكراهات الاجتماعية السياسية والاقتصادية وليس على نطاق الفرد والبيع والشراء كصورة من صور العبودية.

 

أما أبو حامد الغزالي فقدم نقدا لسلطة "الجاه الطبقي" ومعانيها " الإغوائية" أو بلغة معاصرة "الاستهلاكية" واعتبرها من معاني الطغيان التسلطي الموجه للأحرار بهدف إرغامهم على العبودية التي صورها تصويرا دقيقا إذ يقول في الإحياء:" وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم".

 

الغزالي تحدث عن "التطبيع" مع العبودية، و"الاسترقاق الطوعي" و"الفرح بالعبودية" بسبب طغيان طبقات الجاه وما تملكه من أساليب ومقدرات وأموال ترويضية للقلوب تطلب من "الأحرار أن يكونوا لهم عبيدا بالطبع والطوع، مع الفرح بالعبودية والطاعة له (لسلطة الجاه) فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير".

 

وإذا كان الغزالي تحدث عن القدرات "الترويضية" لطبقة "الجاه"، لخلق العبد "السعيد" فإن ابن خلدون تناول سلوك هذه السلطات من خلال أدوات أكثر خشونة "بالإذن والمنع والتسلط والقهر والغلبة" لخلق العبد "الشقي"، وذلك بدفع تلك الطبقات للعمل، عبر سلطة "الجاه" الطبقي باعتبارها "القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم" حتى تتحقق مصالح العمران، وإن تخلل ذلك بعض الآلام فهي شرور قدرية ضرورية لضبط الحياة "وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم."

 

قامت ثورات كبرى انطلاقا من مبادئ تفكيك الاستعباد والاسترقاق السياسي أخذت بعدا كلاميا، فكانت حركات المعتزلة وتيار الأحرار غيلان والحسن البصري وواصل بن عطاء، وكلهم من الموالي

وقد ولد الفكر الجبري الاستعبادي الذي مارسه الأمويون (نحن نحكم بقدر الله) تيارا مضادا وثورات متتالية، كان جوهرها مواجهة العبودية الجديدة، فالخوارج رفعوا من قدر العبيد، ومنحوهم حق الولاية العظمي، وقدم المختار بن عبيد الثقفي[2] قائد جماعة المختارية الشيعية للرقيق، أعجب وثيقة للتحرر، فكل من يحمل سيفا هو من الأحرار. أما علي بن محمد صاحب ثورة الزنج [3]، وهي ثورة عدمية بشعة، فقد أول آيات البيع والشراء القرآنية من قبل للمؤمنين تأويلا تحريريا عجيبا، بأن المؤمنين قد حرروا أنفسهم بالتوحيد والقتال والجهاد، وبذلك بات الآلاف من طائفة الزنج أحرارا، تحت ظلال الرماح.

 

كذلك قامت ثورات كبرى انطلاقا من مبادئ تفكيك الاستعباد والاسترقاق السياسي أخذت بعدا كلاميا، فكانت حركات المعتزلة وتيار الأحرار غيلان والحسن البصري وواصل بن عطاء، وكلهم من الموالي، تقول: إن الله لم يرد للإنسان أن يقيد إنما تفعل ذلك الحكومات الظالمة وأن الإنسان حر مسؤول، ولم يقدموا ذلك في إطار ميتافزيقي كما يقول البعض بل جعلوا بجانب ذلك المبدأ أصلا عقديا هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

 

أما في اللحظة الحديثة مع طغيان الدولة والاستعمار، تبلورت اتجاهات فقهية جديدة متحررة من السؤال الفردي إلى السؤال الاجتماعي، العلامة الطاهر بن عاشور قدم تعريفا سياسيا للأحرار في كتابه (مقاصد الشريعة) بحسبانهم: "الداخلون تحت حكم الحكومة الإسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخولها لهم الشرع في التصرف فيها غير وجلين ولا خائفين أحدا".

 

ويزامله في الطريق شيخ الأزهر الكبير محمد الخضر حسين في تعريفه للرق السياسي في كتابه (الحرية في الإسلام) بأنه ابتلاء الأمة "بأفراد متوحشة تجوس خلالها أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد وننفي عنها الحرية". ويرى أن معنى الحرية أو ما يسميها "اللقب الشريف" ينصرف إلى معنى يقارب استقلال الإرادة ويشابه معنى العتق الذي هو فك رقبة من الاسترقاق". ويكمل الكواكبي: "ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيباً من الزكاة فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفّارات فك الرقاب تشمل هذا الرقّ الأكبر." 

 

قضية "الرق الأكبر" هل تدفع لأن يكون الاستبداد سندا شرعيا لفتاوى ترى أن ما يرزخ تحته المسلمون عبودية حقيقية وأسر للرقاب، هل المواطن العربي العبد الذي يعيش في تلك الدول والممالك أليس من حقه أن يغنم بتخفيفات العبودية، حتى لا يجتمع عليه نير رق الدولة وثقل التكليفات الشرعية، هل تسقط صلاة الجمعة فلا جمعة لعبد باعتبار الجمعة للأحرار، ولا حج، ولا جهاد، ولا يرجم عند الزنا فالعبد غير محصن على أي حال، وفي نفس الوقت يصبح سلوك الحاكم في ضرب العبيد أو محكوم بمدونة تأديب العبيد الشرعية، وهو تأديب مهذب لطيف لا لطم فيه ولا تأثيم ولا كهرباء ولا نفخ أو حرق أو خزق أو خرق، فأي مبالغة كفيلة بالعتق.

 

إن تطبيق أحكام الرق ستحل أزمة الشرعية، فبعيدا عن تزوير الانتخابات، فالرق يمنع من الولايات والرئاسات، ولا تصح الشهادة منه على أحد في انتخاب فالرق ينقص الذمة وتلك المناصب تليق بالأحرار
إن تطبيق أحكام الرق ستحل أزمة الشرعية، فبعيدا عن تزوير الانتخابات، فالرق يمنع من الولايات والرئاسات، ولا تصح الشهادة منه على أحد في انتخاب فالرق ينقص الذمة وتلك المناصب تليق بالأحرار

كما أن شرعة العبيد تمكن الحاكم من السطو على أموال مواليه، سطوا شرعيا بلا مبرر ولا قضاء، وللعبد أن يسرق من مال سيده أو الدولة، بحسب فتوى عمر "عبيدكم سرقوا من متاعكم"، كذلك جرائم قذف العبيد في الإعلام لا تثريب عليها، وعلى العبد أن يقبلها بحب وطواعية، فالحر إذا قذف العبد لا حد عليه.

 

كما أن هناك ميزة للمواطن العربي العبد، فمدونة حكم العبيد تفرض طعاما وكسوة للرقيق "اطعمني واستعملني"، فان امتنع يصبح حرا. كما أن تطبيق أحكام الرق ستحل أزمة الشرعية، فبعيدا عن تزوير الانتخابات، فالرق يمنع من الولايات والرئاسات، ولا تصح الشهادة منه على أحد في انتخاب، ولا قضاء له، ولا تحكيم، ولا إمارة، فالرق ينقص الذمة وتلك المناصب تليق بالأحرار.

 

قديما أبطل العز بن عبد السلام تصرفات الحكام في زمنه بيعا وشراء ونكاحا، ونادى على الأمراء في سوق نصب لهم واحدا واحدا وغالى في ثمنهم، ودفع ما قبض إلى بيت مال المسلمين، هل يمكن أن يحدث العكس.. نطبق شرعة العبيد.. أو نحرر الطائر الحبيس لنستحق شرعة الأحرار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

[1] للمزيد يمكن العودة لكتاب المقدس والحرية لفهمي جدعان

[2]  هو زعيم لمجموعة مقاتلة كانت تطالب بالثأر للحسين، وكان مجال حركته في الكوفة، وكان لها أثر كبير في تاريخ التشيع

[3]  من أخطر الثورات التي واجهت الدولة العباسية واتسمت بالعنف الشديد، وقد استغلت ظروف العمل السيئة التي مر بها قطاع من الرقيق المجلوب من شرق إفريقيا، في بعض مناطق العراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.