شعار قسم مدونات

أعياد الورد

blogs - eid

كان أذان الفجر الوحيد الذي نسمعه مع أول نداء، كأن آذاننا مصممة على التقاطه وحده دون كل أيام العام، ننتبه لهذا الإعلان المُنتظر بأنه أخيرا جاء، اليوم الذي بتنا على أطراف أجفاننا حتى لا يفوتنا منه أى شىء.

فى صالون البيت تنتظرنا الثياب الجديدة الموضوعة بعناية فوق الأرائك، هي الأخرى باتت ليلة عجيبة، هي الليلة الوحيدة التي سيسمح لها فيها ألا تبيت محشورة داخل خزانة ملابس، بل مطوية بعناية أو مفرودة على كرسي كامل لها، وحولها جميع الأجزاء الأخرى، حزام أو حذاء أو نظارة سوداء جديدة.

تمر برأسى تلك الذكريات فأبتسم وأنا أداعب شعيرات فتاتي الصغيرة التى أوشك على إيقاظها فى مشهد نادر لا يتكرر إلا كل عام مرة أو مرتين

مع النور الخافت فى الأرجاء وعلى وقع التكبيرات المتقاطعة الصادرة من أبواق المساجد الصغيرة والكبيرة ينطلق يوم عيدنا، نرتص صفا لأخذ "العيدية" قبل أن ننزل للصلاة فى الساحة، نمني أنفسنا بأن يكون حصاد عيديات هذا العيد أوفر من سابقيه وننطلق قبل أن يداهمنا وقت الصلاة نردد مع الجوقة الكبيرة الموزع أفرادها فى كل شارع ومكان: الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله .. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

بالنسبة لنا اليوم هو يوم اللعب بلا قول: انتهينا، هو يوم الأخطاء الصغيرة بل والكبيرة ربما لا قول: أنت معاقب، هو يوم التردد على المحال بلا قول: كفى، يوم نشعر فيه بأنه ليس لدينا أى واجبات، بل يُشعرنا الناس فيه – كل الناس – من أول أى لقاء بيننا أن عليهم واجبا يؤدوه نحونا، بكلمة أو بسمة أو قطعة حلوى أو عيدية كبيرة، تكفي لشراء حلقات طلقات المسدس الحمراء لآخر اليوم.

تمر برأسى تلك الذكريات فأبتسم وأنا أداعب شعيرات فتاتي الصغيرة التى أوشك على إيقاظها فى مشهد نادر لا يتكرر إلا كل عام مرة أو مرتين، من يحب إيقاظ طفل صغير إذا نام أخيرا ! .. تنفرج عيناها وشفتاها عن شبح ابتسامة ملؤها النعاس، يروق لنا ذلك المشهد الذي نتابعه بشغف أنا وأمها كأنه ظاهرة كونية تحدث كل 100 سنة ضوئية، نقف ونتابع تلك الإفاقة الممتعة كمن يتابع منظر الشروق والشمس التي تملأ الوادي.

يداها الصغيرتان تتمطعان كالكبار، وأسنانها اللؤلؤية قد بدت لنا تبدّىَ مطايا الأحبة للعاشق المنتظر فوق التلال، أحرفها القليلة المغناة تنساب لحنا صباحيا جميل، كل حرف يعقبه حركة مد طويلة تجعل منه سطرا فى نوتة تبدأ من هنا ولا تنتهي إلا بنهاية كل يوم جميل طويل صعب مرهق ممتع.

"اليوم يوم عيد يا وَرد" هذا نحاول أن نخبر الصغيرة التي لم تتم عاميها الأولين بصورة تنقل المعنى بنبرات الصوت وحركات الجسد أكثر مما تنقله بالكلمة نفسها التي نعرف أنها لن تعيها على كل حال، تتقن هذا أم ورد عني، تنطلق منها الجملة فى شكل درامي متصاعد وتقفز فى نهايتها مع تصفيقة سريعة تجعل وردا تفهم مباشرة أن تلك الكلمات الغير مفهومة التي نلقي بها هى نبأ عظيم، فتتهلل مباشرة ونسمع ضحكة سحرية عالية.

هذه الصغيرة تجعلني أعيشه مرة أخرى على خطى العهد القديم، تعيد فى أوراق الشجرة التليدة ماء الحياة فإذا بأوراقها وردا وأعيادا لا تنتهي

عاد أرق العيد لى منذ عام فقط، مرة أخرى أنام على أطراف أهدابي كما كنا نفعل ونحن صغار، هذه المرة لا لأننا سوف يأتي علينا يوم توضع عنا فيه التكاليف وترفع من على أكتافنا المهام ونمنح فيه المزايا والعطاءات والمساحات بلا حساب، بل لأنني سأعطي طفلا ما كل هذا وأكثر.

رصصنا الملابس الجديدة على كرسي صغير قريب، تقربها أمها لها فى احتفاء فتعرف الصغيرة أنها جديدة، تقبض أصابعها الصغيرة على على بطن كفيها مرات عدة وتناديها "إبّس .. إبّس" تريد أن تلبسها، ولا أعرف أيهما ساعتها أكثر سعادة، ورد التى تزينت لتوها وبدت ألقة فى ثيابها الجديدة، أم الثياب التي اهزت وربت من فورها عندما حل فيها جسد الصغيرة الفاتنة.

التكبيرات والساحات التي عرفتها صغيرها تراءت لى من جديد، وقعت عيني على مرأى من مرائى العيد يممت وجهي إلى الصغيرة ألفتها إليه، فكأنما لا أبصر الأشياء إلا بعينيها هي، لقد شهدت هذه الأعياد عشرات المرات بعد طفولتي لم يكن يستخفني فيها أي معنى لأبتهج أو أطرب، كان أبو الطيب ضيفنا دائما على فيها، يطلع مع كل شمس عيد كظاهرة كونية فى الأفق تردد مع كل تكبيرة: عيد بأي حال جئت يا عيد.

أما اليوم فالتجديد كل التجديد يا أبا الطيب، التجديد الذي أحس معه بطعم ولون مختلف لنفس المعنى، بل أتشوفه كما لو لم أعشه، هذه الصغيرة تجعلني أعيشه مرة أخرى على خطى العهد القديم، تعيد فى أوراق الشجرة التليدة ماء الحياة فإذا بأوراقها وردا وأعيادا لا تنتهي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.