شعار قسم مدونات

"محمد صلاح".. بذرة النجاح أم منظومة النجاح؟

BLOGS محمد صلاح

هل تحليل ظاهرة النجاح وتحديد أسبابه ودوافعه ومنهجية استمراريته يجعلك عدوا للنجاح أم مواطنا مخلصا يسعى إلى نهضة مجتمعه وأمته؟ هذا التساؤل يتبلور دائما عندما نستشعر كيف تتم مواجهة بعض المحللين المتسائلين عن مبررات النشوة التي تعترينا عندما نتلقى أخبار نجاحات أبناء أوطاننا الذين غادرونا منذ سنوات أو عقود.

 

تأمل مثلا حالات فارقة في السياق المصري مثل الكيميائي احمد زويل والجيولوجي فاروق الباز والطبيب مجدي يعقوب حين يتم طرح سردية مستهلكة عن أن تميزهم يعود لمصريتهم وخامتهم الفريدة التي شربت من نهر النيل. ولكننا لا نوسع آفاق النقاش أبدا لنتساءل ماذا حدث لهم في مصر قبل رحيلهم، وماذا حدث منذ لحظة وصولهم إلى أرض الغرب المُستقبل المُحتضن.

دعنا نتجاوز الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والطب وننطلق إلى العالم الذي تعشقه الأمة العربية، عالم كرة القدم. كنت قد قررت الانتظار قليلا حتى تهدأ نشوة انتصارات بلدي مصر غير المسبوقة في عالم كرة القدم على مستوى قارة إفريقيا، والتي انتهت بالحصول على ثلاث جوائز أفضل منتخب وأفضل مدرب وأفضل لاعب.

 

اللاعب المتميز محمد صلاح في رأيي المتواضع كان بذرة نجاح واعدة في السياق المصري، مكنته الظروف وذكاؤه وذكاء عائلته من الالتصاق والالتحام مع منظومة النجاح
اللاعب المتميز محمد صلاح في رأيي المتواضع كان بذرة نجاح واعدة في السياق المصري، مكنته الظروف وذكاؤه وذكاء عائلته من الالتصاق والالتحام مع منظومة النجاح
 

أيضا قررت أن أتجاوز الفارق المذهل في الاحتفاء بجائزة أحسن لاعب مقابل الفرحة الخافتة بالجائزتين الثانيتين. وقررت فقط أن أحاول استخدام نموذج اللاعب المصري الفذ محمد صلاح ليقدم حالة دراسة يقينية عن الفارق بين بذرة النجاح ومنظومة النجاح.

نعم، ما يعنيني هنا أن أوضح أهمية الفارق بين بذرة النجاح ومنظومة النجاح لأن الخلط بينهما مضلل بل وأحيانا مُغرض وخادع. ومن هنا تأتي أهمية التعريف الجيد للمصطلحين والتمييز الواضح بينهما. كل دول العالم بلا استثناء بسياقاتها الثقافية والجغرافية والتاريخية، والأهم البشرية تفرز الكثير من بذور النجاح. بذرة النجاح هي إنسان واعد يملك القدرات والإصرار والرغبة على التعلم والتطور والتفوق والتميز ويتطلع إلى المساندة والاحتضان والرعاية.

 

الإشكالية أن هذه البذور إذا استمرت في تربة جافة متشققة ومُسممة أحيانا، تنتهي إلى الضمور بل والموت حتى قبل أن تخرج منها فروعها الأولى. هذه التربة التي نتفنن أحيانا في رعايتها لتستمر جافة رافضة محبطة ولا نقدم نفس القدر من الرعاية والاهتمام لنجوم بازغة لا تحتاج إلا القليل من التقدير والرعاية والتحفيز. الموثق تاريخيا وإقليميا ومحليا، إنه إذا اتيح لبعض هذه البذور أن تنتقل الى بيئات أخرى تتميز بمنظومة النجاح المتكاملة الشاملة فهي التي تحول هذه البذور إلى نباتات يافعة ثم إلى أشجار باسقة مثمرة.

 

منظومة النجاح هنا يقصد بها الإيمان الجمعي على مستوى المجتمع وعلى مستوى الأنظمة الحاكمة بأن هذه البذور الواعدة تستحق كل الرعاية، وبالتالي تتكاتف كل مؤسسات وأنظمة بل وأفراد الشعب لرعايتها وحمايتها والتمتع والفخر بنجاحاتها وإنجازاتها. ومن هنا يكون فرحهم فرحا مستحقا لأنهم بالفعل شركاء في النجاح مع سبق الإصرار والترصد.

إذن اللاعب المتميز محمد صلاح في رأيي المتواضع كان بذرة نجاح واعدة في السياق المصري، مكنته الظروف وذكاؤه وذكاء عائلته من الانتقال والالتصاق والالتحام مع منظومة النجاح التي تقدم له أطروحات جديدة في معنى الالتزام والجدية وحرفية التدريب ومسؤولية المتدرب والاحترام والتفاني والاجتهاد والتعلم المستمر والتواضع اللانهائي لأنه في مكان به عشرات بل مئات النجوم الذين يفرق بينهم فقط جهدهم وإخلاصهم وتفانيهم.

 

أتمنى أن نجعل فرحتنا بمحمد صلاح مولدة للطاقة الايجابية والرغبة الجماعية الواعية في أن نملك أيضا منظومة النجاح وليس فقط بذور النجاح
أتمنى أن نجعل فرحتنا بمحمد صلاح مولدة للطاقة الايجابية والرغبة الجماعية الواعية في أن نملك أيضا منظومة النجاح وليس فقط بذور النجاح
 

كان من الجائز جدا أن يبقى محمد صلاح في مصر، فيتعرض لسوء التقدير من إداريين محدودين أو مدربين عديمي الكفاءة أو أن يصاب ويُشخص ويُعالج بصورة خاطئة أو أن يقلد النجوم المحليين وهم يعتقدون أنهم يسيرون على السحاب، وأنهم أنصاف آلهة فلا يحضرون التدريبات ويمضون مع النرجيلة أوقاتا أكثر مما يمضونها على البساط الأخضر.

 

كان يمكن أن يكون ضحية رئيس ناد محدود القدر والعقل يمنعه من اللعب لأنه من عائلة متواضعة، أو أن يكون ضحية لواء في اتحاد الكرة لم تعجبه طريقته في تحيته، فقرر أن يضعه على القائمة السوداء. إذا كنت متشككا في كلامي فتذكر أو تأمل الكم الهائل من الشباب العربي والمصري فقط، في مجال مثل كرة القدم الذين كنت تتوقع ويتوقع الكثيرون أنهم سيكونوا نجوم النجوم وانتهى الحال بهم مهمشين منبوذين وانطفأت شموعهم مبكراً.

إذن ما أريد التأكيد عليه أنني فخور بمحمد صلاح ليس فقط لأنه مصري، ولكن لأنه أدرك أهمية الانتقال من حالة بذرة النجاح مجهولة المصير إلى الانضمام الى سيمفونية منظومة النجاح حتمية التفوق. أرجوكم لا تخدعوا أنفسكم بالخلط بين بذرة النجاح ومنظومة النجاح، فالواقع أن في مصر كما في العالم العربي وكل العالم نمتلك الآلاف من بذور النجاح ولكننا في مصر والعالم العربي مازلنا شديدي العجز عن صياغة منظومة النجاح، بل أحيانا نتعمد أن نكون منظومة مضادة ومتماسكة من أعداء النجاح.

 

أتمنى أن نجعل فرحتنا بمحمد صلاح مولدة للطاقة الايجابية والرغبة الجماعية الواعية في أن نملك أيضا منظومة النجاح وليس فقط بذور النجاح. دعونا نتجاوز فكرة أننا دائما أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى بذور النجاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.