شعار قسم مدونات

في يوم كان مقداره سِتا وعشرين سنة

Blogs- kurd
أنا العاشق..
وضعت أخيرا لقصة "عشقي الحقيقي" نقطة في نهاية سطرها.. لتعلَن على الملأ، وتخرُج من بين ركام كثيف، بل من بين قلق الأيام والليالي، والأشهر والسنين.. فعمر قصة عشقي هذا ست وعشرون سنة، وما أدراك ما (الست والعشرون)..! هي نصف ما قضيت من عمري الحقيقي.. هو ذلك النصف الذي بأضعاف النصف الآخر بدون هذا العشق، طولا، وهمّا، ومتعة..

  

إنها قصة ذكريات هروبنا الجماعي.. ذكرياتِموتنا وحياتنا.. ذكريات جرأتنا وجبننا، طفولتنا وشبابنا.. انتصاراتنا وانتكاساتنا.. ملهاتنا ومأساتنا، جمالنا وقبحنا.. من حسن الحظ أن المأساة عندما تتحول لقصة ما بعدها، تأخذ مأخذ الملهاة، عندما تتجمل قراءتها في ثوب الكلمات، والصور الصياغية، والتعابير، وجمال الخيال المستوحى من الواقع أو الواقع المستنبط من الخيال..

 

إنه عالم الرواية..
دخلت في تجربتي الثانية بعد "الهروب إلى الحياة" من حكاية أيام من ذاكرة جندي عراقي التي صدرت عام 2003، إلى "هروب نحو القمة" من مذكرات كردية في زمن منسي: "هروب نحو القمة" روايتي التي صدرت مؤخرا وتناولتها أيدي القراء ووقائع الندوات وأقلام النقاد.

  

فأنا ما بعد "هروب نحو القمة" لست الذي قبلها، فأنا الـ"هذا" يفكر في كل شيء، كيف يمكن تحويله إلى الكلمات.. حتى هذه الشاشة التي أمامي تختلف عما قبل "هروب نحو القمة"، فهي ما بعدها مولّدة الفِكر والخاطرة بل الحياة، طالما بقت أصابعي تلعب على لوحة مفاتيحها، وتتراقص على أحرفها المتناثرة، لتصنع منها الكلمات بل الأفكار والقصص، وبداية انطلاق مشاريع روائية جديدة..

    

undefined

أوميد البطل..
أوميد بطل روايتي يختزل ستا وعشرين سنة في يوم واحد، عندما يريد الهروب فعلا وهو في عام 2017 من المشاكل السياسية في الإقليم، نحو قمة تلّ كان يحتضن بيتهم عندما كان طفلا وحتى وصوله للخمس والعشرين سنة من عمره، ذلك التل الذي يحمل (بقدر ما يحمل على طرفه من صخور ومن دور) ذكريات أوميد التي تنطلق به إلى طفولته أولا، ثم فُتوته وشبابه الذي يأخذه بالتالي إلى قضية قومه تاريخا وحاضرا، ليخلو بنفسه على قمة التل مع الطبيعة وحدها فيهرب بحسّه وشعوره، بل حتى بجسده..

 

توسُّع الرواية زمانيا ومكانيا..
هكذا تتوسع الرواية مع ذاكرة أوميد في يوم واحد زمانيا ومكانيا، زمانيا لتشمل تاريخ مائة سنة من القضية الكردية، ومكانيا لتشمل كردستان ككردستان ليس كشمال العراق ولا جنوب شرق تركيا ولا شمال شرق سوريا ولا شمال غرب إيران، فعندما يُنهي الهاربون الأراضي العراقية وتبدأ الأراضي التركية على خط متعرج رسمته اتفاقية سايكس بيكو يسمى بالحدود، عندها كردستان لا تنتهي ولا تبدأ بل تستمر في كل الاتجاهات، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فأينما يولّي الهاربون وجوههم كانت كردستان.

 

ليس تاريخا.. بل هو تاريخ..
الرواية لا تكون تاريخا من منظور علمي، لكنها قد تصبح تاريخا من منظور فني وأدبي، والفرق شاسع بينهما، فالعلم عالم المادة والقوانين والقواعد والحسابات، والفن عالم الخيال والشعور والعواطف، والثاني عالم مفتوح وحُرّ، أما الأول فعالم محدود ومقيد ومحسوب، فـ"هروب نحو القمة" تاريخ مقطع من الحياة في إطاره الفني والأدبي، في إطاره الخيالي والشعوري، الحسي والعاطفي، فالأحداث كلها واقعية وحقيقية، لكنها أُسقطت على إطار مختار من شخصيات وأماكن، في قصة نُسجت بعناية أحداثها وشخصياتها بل عالمها، إلى درجة أن الشخصيات خيالية فلا يكاد القارئ يعرف هذا في الرواية مِن ذاك في الواقع! وحقيقية إلى درجة قد يظن القارئ أحيانا أن هذا هو فلان أو عِلان، "هروب نحو القمة" عالَم من الخيال والشعور مصنوع من أحداث واقعية، وواقع مصنوع من الخيال، بهذا سجل تاريخا دون أن يكون بحد ذاته تاريخا!.

 

عندما ترمز العائلة كلها إلى النكسات والانتصارات والثورات والمأساة ويذهب الجميع ويبقى الأمل لانطلاقات جديدة مهما كانت النكسات، لذا لا يموت الأمل وهو الذي يملكه الكُرد دائما عندما يقتربون من الموت النهائي
عندما ترمز العائلة كلها إلى النكسات والانتصارات والثورات والمأساة ويذهب الجميع ويبقى الأمل لانطلاقات جديدة مهما كانت النكسات، لذا لا يموت الأمل وهو الذي يملكه الكُرد دائما عندما يقتربون من الموت النهائي
 

شخصياتها رموز..

"سَرهلدان: بمعى الانتفاضة" الرضيع في أسبوعه الثالث، فهو المولود في الخامس من آذار/مارس حيث انطلاقة انتفاضة كردستان من رانية سنة 1991، فسُمي تيمنا بذلك، وهو الهارب في حضن والدته بعد انتكاسة الانتفاضة يوم الواحد والثلاثين من آذار/مارس من العام نفسه؛ 1991، وهو الميّت أولا في طريق الهروب، حيث يفشل في مقاومة البرد والمطر والليل مع انتهاء أول يوم وبدء اليوم الثاني من الهروب، و"بهيفان: بمعنى الشخص الذي في عزاء" فهي التي دخلت لتوّها سنتها الثالثة، فهي المولودة في السادس عشر من آذار/مارس عام 1989، بعد مرور عام على مأساة حلبجة، وسميت تيمُنا بذلك، ووالدتها "كانيك: بمعى الينبوع المتدفق ماء" تلك الطويلة الجميلة البهية الرشيقة العاشقة لـ"أوميد: بمعى الأمل" هو الوحيد الذي يبقى حيا بعد موت بهيفان ووالدتها كانيك معا في الثلوج بعد مسيرة عشرة أيام مشيا في أمطار وطين وثلوج لتترك العائلة "أوميدا" وحيدا يصل مخيم الهاربين.
  
يصل كأول على سباق ماراثون تراجيدي استمر لعشرة أيام، يخسر فيه جميع أفراد العائلة عندما يسقطون صرعى واحدا بعد الآخر إلا أوميد، تتركه وحيدا للمستقبل ليروي ما حدث من مأساة، ولتبقى روايتنا تعيش أملها، فعندما ترمز العائلة كلها إلى النكسات والانتصارات والثورات والمأساة ويذهب الجميع ويبقى الأمل لانطلاقات جديدة مهما كانت النكسات، لذا لا يموت الأمل وهو الذي يملكه الكرد دائما عندما يقتربون من الموت النهائي.

 

أنتهي ليبدأ الآخرون..
هنا أنتهي من "هروب نحو القمة"، فهو العالم الذي كان بالنسبة لي في حالة تغيير مستمر منذ ست وعشرين سنة، حيث مرّ هذا الكيان بمرحلة ذكريات بسيطة سجلت أثناء الهروب منذ أوّل يوم (31/3/1991) وحتى (9/4/1991)، تحولت بعدها إلى قصص باللغة الكردية في مجموعتين "طريق جلى1، وطريق جلى2″، ثم قصص باللغة العربية لاقت في وقتها رواجا في المنتديات العربية أعوام (2000 وحتى 2003) وبعد ذلك مباشرة نويت أن أعمل من ذلك الخام من ذكريات وقصص رواية.
  
فبدأت بها عام 2003 لأنتهي منها ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، في هذه الفترة كانت الرواية كيانا يتغير كل فترة وأخرى من أسلوب إلى آخر، ومن تغيير في شخصيات وأسمائها، بل حتى العنوان، إلى أن استقر على هذه الحال التي بين أيادي القراء، وأصبحت بالنسبة لي ماضيا لا رجعة إليه، وبالنسبة لكم حاضرا لتبدؤوا من حيث انتهيت، وتقرؤوها فتتمتعوا بها، فأنا اخترتها من بين ما كنت أعشقه من لحظات حياة مريرة لذيذة مَرّت أردت لها أن تبقى حية، وتقيّموها وتنتقدوها وهذا ما أنتظره. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.