هل انشغلَ المحدّثون بالأسانيد وغفلوا عن المضامين؟

إعلان

يتّهم بعض الكتّاب المعاصرين أهلَ الحديث، الذين رووا أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجمعوها ونقّحوها، بأنّهم صبّوا جلّ اهتمامهم على دراسة الأسانيد وعلم الرواية والرجال، غافلين -بحسب زعم هؤلاء- عن دراسة المتن وعلم الدراية، أي دراسة مضامين الأحاديث ومدى موافقتها لقطعيات الشريعة ولمقتضى العقل والعلم كما يقولون. ومن ثم وجد هؤلاء أنّ هناك مهمّة تم إغفالها في تاريخ علم الحديث وهي مهمة الحكم على الأحاديث من خلال دراسة متنها ومحتواها، وليس من خلال دراسة رجال الرواية وأسانيدها فحسب.

 
فهل حقّا غفل أهلُ الحديث عن علم الدراية؟ وهل كانوا منشغلين بالأسانيد والرجال غافلين عن مضامين الأحاديث؟ في ظنّي لا يقول هذا الكلام إلا من مرّ مرورًا سطحيّا على كتب الحديث، ولم يتعمّق في مناهج المحدّثين وفي طبيعة علم الحديث وكونه لبِنة ضمن الهيكل العام لعلوم الشريعة الأخرى. وسنحاول في هذه التدوينة تسليط الضوء على عدة نقاط؛ لتجلية الصورة وبيان قصور هذه المقولات.

 

إعلان
لماذا اهتمّ المحدّثون بالأسانيد والرجال؟

في مقدّمته المهمة لكتابه "المسند الصحيح" يعرّف الإمام مسلم (206-261 هـ) بفلسفة أهل الحديث التي توضّح سبب اعتنائهم الكبير بدراسة الأسانيد والرجال، وذلك أنّهم كانوا يرون تلازمًا بين "القول" و"القائل". تنطلق هذه الفلسفة – كما يوضّح الإمام مسلم – من القرآن الكريم، إذ يقول في مقدمة كتابه الصحيح تحت باب سماه "باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله":
 

"واعلم وفّقك الله تعالى أنّ الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتّهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحّة مخارجه والسَّتارَة في ناقليه، وأن يتّقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أنّ الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه؛ قول الله تبارك وتعالى ذكرُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. وقال جلّ ثناؤه: {ممَّن تَرْضَوْنَ من الشُّهداء}. وقال عزّ وجلّ: {وأشهِدوا ذوَيْ عدلٍ منكم}. فدلّ بما ذكرنا من هذه الآي أنّ خبر الفاسق ساقطٌ غير مقبول، وأنّ شهادة غير العدل مردودة". اه.

 

  

 
بهذه الاستدلالات القرآنية يوضّح الإمام مسلم السبب الرئيسي الذي من أجله اعتنى المحدّثون بسلسلة الرجال الذين يروون الحديث، إذ ثمة علاقة تلازم بين "القائل" و"المقول"، بين "الحامل" و"المحمول"؛ فالقائل هو الوعاء الإنساني الذي يحفظ المقول بلفظه ومعناه قدر الإمكان، فإذا ثبت وجود خلل أو رداءة في الوعاء، أو احتواؤه على مواد أخرى فاسدة اختلطتْ بما انصبّ فيه؛ فمن ذا الذي يقبل أن ينهلَ منه؟ إنّك حين تريد شراء الحليب ووجدته يُباع في وعاء قذر كانت تُنقل فيه مواد سامّة أو قاذورات، فهل تفكّر في فحص جودة الحليب أولًا أم تتخذ قرار رفض تناول الحليب منه ابتداءً؟!
 

إعلان

وأنتَ إذا لقيت كذّابا معروفًا بكذبه، أو خرِفًا معروفا بخرَفه، ثم سمعتَ منه خبرًا، ألا ترى أنّ أثر الكذب أو الخرف سيظهر على محتوى الخبر، سواء من خلال المبالغة أو رواية ما لا يُعقل؟ لقد أدرك المحدّثون الأوائل هذه الحقائق ولهذا أمعنوا في معرفة الرجال وأحوالهم، لأنّهم الوسائل إلى الغاية، وهي: الحديث النبوي الشريف. وكانوا في ذلك منطلقين من مبادئ قرآنية واضحة كما بيّنّا.

 

هل تجاهل أهلُ الحديث مضامينَ ما يروون؟
إعلان

لقد كانت لأهل الحديث في الواقع مسالك عديدة للتأكد من صحة الحديث أبعد من مجرّد النظر إلى أحوال الرجال، بل كانوا ينظرون بدقة وحذق إلى مضمون ما يروون، فإذا وجدوا فيه شيئا غريبا غير معروف – وضعْ مائة خطّ تحت كلمة "معروف" – استرابوا منه وردّوه في الغالب. ولهذا نجد الإمام مسلمًا يقول في مقدّمة صحيحه: "وعلامة المنكَر في حديث المحدّث، إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفتْ روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمَله". ويقول أيضًا: "فأما من تراه يعمِد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل حديث هشام بن عروة، وحديثُهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابُهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم؛ فغيرُ جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم". اه.

 
باختصار، يريد الإمام مسلم أن يقول لنا التالي: إنّ أهل الحديث ينظرون في مضامين ما يروون، ويعرفون جيّدا ليس فقط الرجال كلّا على حدة، بل "العلاقات" بين هؤلاء الرجال. فإمامٌ شهير كالزهري، له أصحاب وتلاميذ معروفون رووا عنه، وهناك تشابه كبير بين مضامين ما رووا؛ لأنّ الزهري في النهاية وعاء من العلم ينثر علمه على تلاميذه دون تفريق أو تخصيص. فإذا جاء شخص غير معروف، وروى عن الزهري عددا من الأحاديث الغريبة التي لا توجد عند غيره من أصحاب الزهري الذين رووا عنه؛ حَكمَ المحدّثون بضعفه ولم يأخذوا عنه الحديث! وهو ما يؤكّد أنّهم كانوا يدرسون المتون جيّدا، فلا يمرّ عليهم شيءٌ دون نظر وتدقيق ومقارنة بالمعروف من السنن.

   

إعلان

 
و"المعروف من السنن" مفهوم على غاية كبيرة من الأهمية؛ لأنّه ضابط مهم استخدمه أئمة الحديث في تنخيل الأحاديث المروية. ولهذا نجد الإمام مسلمًا يروي في مقدّمة صحيحه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "سيكون في آخر أمّتي أناسٌ يحدّثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم". ويروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما أنت بمحدّث قومًا حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". إلى جانب روايات أخرى؛ ليؤكّد على أنّ عقائد الدين وشرائعه معروفة قبل تصنيفه لكتابه، وإذا جاءت رواية تخالف مخالفة قطعية ما جاء في قطعي الدين المجمَع عليه؛ فهي رواية غير مقبولة عند أهل الحديث.

 
ولهذا كان كبار أهل الحديث يتجنّبون رواية المرويّات التي تخالف المعروف من السنن، وهذا يعني أنّ هناك جهدا كبيرا في تحقيق المتون وتنخيلها بناءً على منهج الدراية قد تمّ "وراء الكواليس"، قبل أن يقدّم الإمامُ في الحديث عملَه النهائي على صيغة مصنّف من المصنّفات الحديثية؛ كسنن أبي داود، أو جامع الترمذي، أو صحيح البخاري أو غيرها من الكتب. ولأجل ذلك فإنك لن تجد الكثير من النقاش في تلك المصنّفات الحديثية الشهيرة حول المتون المخالفة لقطعيات الدين أو للمعقول؛ لأنّهم نبذوها واستبعدوها من كتبهم مسبقًا، فلذلك تقلّ الروايات المنكرة بشكل كبير جدّا في تلك المصنّفات الشهيرة المعتمدة. وإنما تَكثر الروايات المنكرة في المصنّفات غير المعتمدة في الفقه والدين، والتي تُكثر من رواية الضعيف والواهي والمنكر، وقد تتبّعها أئمة الحديث بالنقد والتضعيف، ولم ينشأ عنها صياغة لعقائد أو شرائع جديدة.

 

إعلان
الحكم على الرجال كنتيجة للحكم على المتون

عندما نقرأ كتب الحديث، ونجد أنّ المحدّث ضعّف حديثًا بناءً على ضعف أحد رواة السند؛ نظنّ بأنّ الحكم على الحديث هنا هو من حيث الرواية محضًا، دون الالتفات إلى متن الحديث ونقده درايةً. والواقع أنّ مساحة كبيرة جدّا من أحكام علماء الحديث على الرواة جاءت كنتيجة لأحكامهم على المتون ومضامين ما يروي هؤلاء الرواة، وإليك بيان ذلك.

  

إعلان
لعله من المثير للاهتمام أن تكون كتب التراجم والرجال، التي هي ألصق شيء بعلم الرواية، دليلَنا الواضح الصريح على عظيم اهتمام أئمة الحديث بالدراية!
  

فمن يتصفّح كتب التراجم والرجال، ككتاب "التاريخ" للبخاري، و"المجروحين" لابن حبان، و"الكامل في الضعفاء" لابن عديّ، وغيرها من الكتب، سيجد أمرا متكررا بكثرة، وهو الحكم على شخص بالضعف لكونه "يروي المناكير". ومن ذلك أن يصف البخاري بعض الرواة مثلا بأنّه "منكر الحديث"، أو ما ذكره ابن حبان عن أحد الرواة بأنّه "غلبَ على روايته المناكير فاستحقّ الترك"، أي أنّ الحكم النهائي عليه بأنّه "متروك" نتج عن نظر في مضامين ما يروي. أو كقول ابن عدي عن أحد الرواة "عامّةُ ما يرويه ليس بمحفوظ"، مما يدلّ على جهد كبير في عرض مضامين الأحاديث المروية على المحفوظ المعروف من السنن.

 
وبهذا يتّضح أنّه وإنْ كان تضعيفُ عددٍ كبير من الأحاديث قد نتج بشكل مباشر عن الأحكام على الرواة، فإنّ أساس الكثير من هذه الأحكام على الرواة قد نتج من خلال النظر في مضامين الأحاديث التي يروونها والحُكم عليها، أي أنّ هناك اعتبارًا كبيرا لمحتوى الأحاديث في الحكم على الرجال. ومن هنا، فحين تُرَدُّ الكثير من الروايات بسبب وجود أحد المطعون بهم في سلسلة السند؛ فإنّه وإنْ كان السبب المباشر يكمن في السند، فإنّ السبب الأساسي الذي أضعف السند هو النظر في المتون، أي في محتوى الأحاديث التي يرويها ذلك الراوي وقياسها إلى قطعيات الدين. ومن ثمّ يظهر جليّا لمن يتصفّح كتب التراجم والرجال، أنّه قد كان لأهل الحديث عناية كبيرة جدّا بالدراية، وبِسَبْر مضامين الأحاديث وعرضها على قطعيات الدين، ومقارنتها بالمعروف المحفوظ من الأحاديث. ولعله من المثير للاهتمام أن تكون كتب التراجم والرجال، التي هي ألصق شيء بعلم الرواية، دليلَنا الواضح الصريح على عظيم اهتمام أئمة الحديث بالدراية!

إعلان

 

الدراية لا تقف عند المحدّثين

يظنّ بعض المهتمين بأمر الحديث النبوي أنّ مجرّد الحكم على صحّة حديث يعني أنّ مضمون هذا الحديث قد تحوّل مباشرة إلى تكليف. وهو خطأ ناشئ عن الجهل بمنظومة اجتناء التكليف الإسلامية، فدراسة مضامين الأحاديث و"درايتها" وصولا إلى بيان التكليف الذي تفيده هي عملية يشتغل بها أهل الحديث وأهل الفقه وأهل الأصول، وقد بيّنتُ ذلك تفصيلا في تدوينة "فلسفة السنّة"، فليراجعها من أراد التفصيل. لكن ما أودّ قوله هنا أنّ النصّ الحديثي يمرّ من خلال الفرز الفقهي والأصولي لينضبط في إطار الهيكل المتماسك للشريعة ولا يخرج عنها، وبهذا ضمِن العلماء من أهل السنّة من خلال منظومتهم الفقهية والأصولية ألا يشكّل حديثٌ واحدٌ أو حديثان مفاهيم جديدة في الدين تخالف القطعي المستفاد من قطعي القرآن ومتواتر السنة وما أجمع عليه الأئمةُ المقتدى بهم.

إعلان

  
 
ومن "تقنيات الضبط" التي مارسها علماء الأمة قديما: الجهود العلمية التي بذلوها في تأطير النصوص الإشكالية في ظاهرها ضمن الهيكل العام لقطعيات الدين، وذلك من خلال مؤلفاتهم في مجال "مشكِل الحديث"، أي الملتبس، و"مختلف الحديث"، أي ما بين الأحاديث من اختلافات ظاهرة، وقد ناقشوا في هذه المصنّفات الكثير مما يُعاد ذكره هذه الأيام. وسيجد الباحث العديد من الكتب التي اعتنت بهذا الجانب، فالأحاديث التي رواها الثقات لا تُهدر لأدنى شبهة عند أهل العلم المتقنين، وإنّما يُصار إلى تأويلها تأويلا يتّفق مع قطعيات الدين.

 
وكثيرٌ مما يُقال إنه مخالفٌ لقطعي من الدين من الأحاديث ستجد أنّه بالإمكان بسهولة قبوله والتوفيق بينه وبين قطعيات الدين دون عناء، كأحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلّم، فقد قال بعضهم إنها تنافي عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن من الذي أخبر هؤلاء بطبيعة ذلك السحر وكونه يؤثّر على تبليغ الوحي؟ بل في بعض الأحاديث ما يُفيد بأنّ مضمون ذلك السحر كان مؤثّرا على الناحية "الدنيوية" للرسول صلى الله عليه وسلّم لا على الوحي، فقد روي في صحيح البخاري أنّه بفعل السحر "كان يرى أنّه يأتي النساء ولا يأتيهنّ". فأين التناقض بين العصمة الواجبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وبين ابتلائه بسحر آذاه في بعض شؤونه الدنيوية؟ وهل يعجز الله سبحانه عن أن يعصمه – حتى وهو مسحور – من الإضافة إلى الدين أو من اختلاط أمر الوحي عليه؟

 
وهكذا، كثيرٌ مما يُسارَع إلى الحكم بمخالفته لقطعيات الدين ليس كذلك، ويمكن التوفيق بينه وبين قطعيّات الدين دون تكلّف.

إعلان

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان