شعار قسم مدونات

الحدود ليست ترابا.. والتقسيم ليس حلا

blogs - saics
لم تتعرض اتفاقية على مدى التاريخ لمثل هذا السخط العريض الذي تعرضت له اتفاقية سايكس-بيكو السرية التي تم بحسبها تقسيم منطقة الهلال الخصيب (تشمل العراق والشام التاريخي، الساحلي خصيصا، بحسب جيمس برستد) سياسيا بين الكيانات التي لا زالت قائمة إلى اليوم.

كانت الاتفاقية سيئة السمعة حتى لدى الطرفين اللذين وقعاها، إنجلترا وفرنسا، حيث حاولت الأولى إقناع حلفائها العرب الذين حاربوا الأتراك معها في الحرب العالمية الأولى، بأنها مجرد أكاذيب بلشفية. كان ذلك بالطبع قبل أن يجتاح الفرنسيون سوريا إلى دمشق ليصحو الحلفاء العرب من حلمهم على كابوس.

تحول تقسيم العراق إلى هدف إصلاحي يسعى المجتمع الدولي إلى تقريره بالقوة، أو على الأقل، إقناع العراقيين به كحل نهائي لمشكلاتهم الأزلية.

بالنسبة للعرب، كانت تلك الاتفاقية سببا في ضياع حلم الدولة الجامعة. وبالنسبة للترك، كانت رمزا لاقتسام التركة العثمانية بين خصومها. وبالنسبة للأكراد، كانت رمزا لضياع حقهم في كردستان المستقلة . حتى بالنسبة للغربيين، بدت كتقسيم غير عقلاني يصنع كيانات هشة، "سلام ينهي السلام" بتعبير المارشال ويفل الذي عنون به ديفيد فرومكين دراسته التاريخية عن تلك الحقبة. باختصار كانت رمزا، ليس فحسب لوقاحة الاستعمار، بل لحماقاته أيضا.

كان وقع الحديث عن الحدود المصطنعة والوحدة الأصلية والمنشودة بين العرب جميلا على الآذان العربية في الستينات، لكنه صار نشازا بعد أن تحول إلى لحن مفزع للاستشراق التسعيناتي الجديد الذي يدعو إلى إعادة تقسيم تلك الكيانات للتخلص من حالة الاحتراب الأهلية السائدة فيها.

فعشية تدمير العراق وحصارها بعد حرب الخليج الأولى، تحول الحديث عن اصطناع العراق الحديث من قبل الاستعمار عبر توحيد ولايات عثمانية دون أساس يمكن أن يجمعها، إلى توجه أكاديمي.

وعندما نقول "توجه أكاديمي"، فإننا ننتقل من المعرفي إلى السياسي، لأن التوجه يعني أن ثمة خطاب كثيف دعائي لخلاصة ذات طابع سياسي بغض النظر عن التراكيب النظرية التي قد نتفق أو نختلف معها.

وهكذا ظهرت أعمال من قبيل: "فرض القومية على دولة لا-قومية" (1997) لريفا سيمون، و"اختراع العراق" (2003) لتومي دودج، ليتحول تقسيم العراق إلى هدف إصلاحي يسعى المجتمع الدولي إلى تقريره بالقوة، أو على الأقل، إقناع العراقيين به كحل نهائي لمشكلاتهم الأزلية. واليوم، نشهد تكرار المشهد نفسه في سوريا، حيث الحديث بكثافة عن التقسيم كحل وحيد ممكن.

يردد الإسلاميون، للمفارقة، كما ردد القوميون من قبلهم، نفس تلك الأطروحة وإن بطريقة معكوسة، عندما يتحدثون عن رفضهم الجذري للحدود بين الدول العربية/الإسلامية؛ الرفض الذي تجسد في السعي الواعي إلى دولنة الكفاح الشعبي في تلك البلدان عبر الجهاد المعولم الذي يستدعى فيها المسلمون الأجانب بكثافة.

إن ما يجمع هؤلاء جميعا هي تلك النظرة الميثولوجية للتاريخ التي ترده إلى محض إرادة استعمارية، مغفلة كون الأحداث التاريخية لا تنبع فحسب من إرادات هذا الطرف أو ذاك، وإنما أيضا من وقائع الجغرافيا وتكوينات التاريخ. فطبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية، فضلا عن التاريخ المشترك، لتلك الكيانات، كما يشرح عصام خفاجي مثلا في حالة العراق ("تشكيل العراق الحديث"، كلمن، العدد 7، صيف 2012)، تشرح مبررات قيام تلك الكيانات وشرعياتها التي يمثل إغفالها دفنًا للرؤوس في الرمال.

يتخيل الإسلامي، العراقيين مثلا قبل الاستعمار، كمجموعة من المسلمين الذين يشعرون بانتماء لا مراء فيه إلى أمة إسلامية واحدة يعبر عنها نظام الخلافة، بينما يغفل أن كثيرا من التكوينات العشائرية في العراق لم يكن لديها، كما يوضح حنا بطاطو في دراسته الرائدة عن العراق، تلك المشاعر الدينية، وكانت أقرب ما تكون إلى قبلية جاهلية، ترفض الخضوع إلى أية سلطة مركزية.

أما المستشرق، الذي يأتي أحيانا في ثوب عقلاني صارم، وأحيانا في ثوب ما بعد حداثي يحترم الخصوصية الثقافية، فإنه يغفل على كل حال الدور التحديثي للدولة التي تسعى إلى تفكيك تلك التكوينات العضوية العصبوية في سبيل خلقها مجتمعا حديثا يعيد تعريف نفسه بما يستوعب اختلافاته، حتى الجذري منها.

إذا كان احترام الوقائع والتاريخ إذن يدفعنا إلى احترام واقع الدول العربية القائمة، فهو أيضا يمنحنا الوعي بترابط المصير العربي.

وبدلا من الحديث عن مواطنة قانونية ومشترك ثقافي جامع لا ينفي التعددية كأساس لأمة سياسية، إذا بالمستشرق يدعو إلى الاعتراف بالأعراق والطوائف الدينية وغيرها من المكونات العصبوية كأسس لكيانات، أو بالأحرى كانتونات، سياسية مجزأة. يدعي هذا المستشرق أحيانا أنه إنما يفعل ذلك انطلاقا من التاريخ، لكنه في الواقع لم يرَ في التاريخ إلا ما أراد أن يراه.

لا يؤدي التقسيم الذي يرد الكيانات السياسية إلى المكونات العضوية من قبائل دارفور، وأعراق الأكراد والعرب والتركمان والفرس، وجهات جنوب اليمن وشماله، وطوائف سنة العراق وشيعتها، أو سنة سوريا وعلوييها، وأصول تاريخية عشائر شرق الأردن وفلسطينييها، في الأخير، إلى تسويات نهائية كما ادعى المستشرق، وكما تخيل المحلي، وإنما يؤدي إلى متوالية من التشظي اللانهائي، حيث أن الكيانات العصابية القائمة على وحدة عضوية مزعومة، لا تلبس أن يفاجئها اختلاف عضوي جديد، وحاجة من جديد إلى التقسيم.

هنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة واضحة، وهو أننا أمام فشل تاريخي تسببت فيه أنظمة فاسدة، في تحديث المجتمعات العربية تحديثا جديا ومتزنا في آن، سواء على صعيد التنمية الاجتماعية الشاملة، أو على صعيد بناء الهوية الجامعة على المشترك الثقافي الذي لا ينفي التعددية.

إذا كان احترام الوقائع والتاريخ إذن يدفعنا إلى احترام واقع الدول العربية القائمة، فهو أيضا يمنحنا الوعي بترابط المصير العربي، وينبهنا إلى رعونة الاستسلام إلى وطنية انعزالية تغفل الأسس المادية والثقافية للارتباط العربي التي تجعله واقعا يمكن إنكاره، كما يمكن لمريض الفصام إنكار أية حقيقة دون أن يكون لإنكاره أثر في واقعيتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.