شعار قسم مدونات

حلم يتوارى ونفس يختنق

blogs-ثورة مصر
الواقع يفرض سطوته، يأخذنا أفئدة طازجة، ويردنا أفئدة مطفئة، أتذكر مدى توقي بالحياة في مبتدأ الأمر، أحلامي الكبيرة التي أزهو بها وأحدث الجميع عنها، شغفي اللانهائي بالقراءة والأدب، أملي المتفجر رغما عني، يأسي المختبئ أمام صخب الشباب وعنفوانه، قراراتي الجريئة التي ملت إليها ومالت إلي، أتذكر كل هذا وأنظر إلي الآن لأجدني شخصا آخر طاف به الواقع وألهبه من ناره الحارقة ما أودى به إلى الانطفاء إلى الانزواء بعيدا عن كل شيء.

لم تكن أحلاما شخصية بقدر ما كانت أحلاما عامة، الإنسان لم يكن يوما إلا ابنا لبيئته، ومن هنا كان اهتمامي بالشأن العام، كان توقي لطفرة وتغيير شديدين في كل ما يحيط بي من واقع وحال، فتغيير بيئتي ومجتمعي إلى الأفضل كفيل أن يقطع لي نصف المسافة إلى ذاتي التي أطمح إليها، هكذا كنت أرى وما زلت.

إرهاصات الثورة التي ما انفككت يوما في تشكيلها والمساهمة فيها، كلماتي الضئيلة على مواقع التواصل، متابعتي الشائقة لكل تطور، ذهابي إلى الإسكندرية لأنضم إلى مظاهرة شبابية نخبوية متوقدة اعتراضا على حادثة خالد سعيد، كل هذا كان حرصا زائدا مني على تمثل الحالة ربما، و دليل أكيد على مدى الحماسة التي شملتني حينها.

اليقين وحده هو ما يدفعنا دفعا نحو الأحلام، هو ما يدانيها ويجبرها على الهبوط، هو ما يجعلها طيعة جاهزة للتشكل على أيدينا كيفما أردنا

بثورة تونس تفجرت فينا الغبطة وزادت مساحات الثقة، ثم بعدها بأيام كان اليوم الموعود الذي تحرك فيه الشباب من مواقع شتى باتجاه الميدان، كان وصولي مع إحدى المسيرات قبيل الغروب، فرحة عارمة تلامس شغاف القلب أننا على الأقل حققنا حلما جزئيا وهو الوصول، أختار أماكن مرتفعة لأقيم منها مدى الأمل مدى الصحو الذي أصاب الناس، كل الوجوه وجوه شابة ندية تشاركني أحلامي، ما أجمل أن تتأكد أنك لست وحدك.

أتذكرني جيدا بين الجموع، أتذكر الغناء ودندنات الشباب وشبقي بهما، أتذكر الإضاءة الخافتة الصفراء التي أضفت على المكان مسحة من الخيال والانفصال، صفارات الانذار، حديثي مع الجنود المتراصين حولنا، هتافات الشباب التي لم تكل ولم تمل، أتذكر كل هذا ليتوزع في داخلي الألم الكبير على حلم هدمته الغوغاء.

في الحد الفاصل بيننا وبين الأمن أقبل علينا أحدهم متأبطا هيئته ورتبته الكبيرة وقال لنا "رسالتكم وصلت يا شباب، كفاية كده وياريت نفض التجمع" أحدهم تمثل الجميع برد تلقائي قال فيه "لسنا هنا لايصال رسائل نحن هنا لاسقاط النظام" ، أتأمل هذا المشهد كثيرا لأستمد منه أسطورية الحالة ومدى خروج الحس الجمعي عن المألوف، أتأمله لأستمد منه تلك الثقة الناهضة وذاك اليقين العميق في تحقيق الغاية رغم الضعف وقلة القدرات.

اليقين وحده يا صديقي هو ما يدفعنا دفعا نحو الأحلام، هو ما يدانيها ويجبرها على الهبوط، هو ما يجعلها طيعة جاهزة للتشكل على أيدينا كيفما أردنا.

بعد مواجهات سابقة وبعد أن عمنا الهدوء مدة كبيرة؛ أبان الوحش مجددا عن أنيابه، صفارات الإنذار والتحذير تتعالى بعد منتصف ليل الخامس والعشرين من يناير بنصف ساعة، الشباب يرتصون على الأرض جلوسا ليغلقوا بأجسادهم منافذ الميدان، لا سبيل للمقاومة السماء تتلبد بما لا يحصى من عبوات الغاز، الغاز ينتشر، والجموع رغما عنها تفر.

مسير متعثر وموت محتم يركض خلفك، موقع قيد الانشاء تسربنا إلى محيطه، قفز بعده لأسوار، ثم عبوة تهوي بجانبي، نفس يختنق وحلم يتوارى، أركض والأرض حولي تدور، يد تمتد لي بعد سقوط، نهوض متأرجح واستناد حتمي على من ساعدني، بلغنا معا شاطئ النيل، لم أعرفه ولم يعرفني لكن في الأساطير يكفي أن تتلاقى الأحلام.

لم أختنق بل اختنق الحلم، شهق شهقة الموت، دموع تفر، ووجوه من حولي لا أعرفها تهون وتبث في قلبي الأمل، انكسار بعد علياء لامستها، ما أصعب أن يموت الحلم وليدا، ما أصعب أن يتوارى القمر في لحظة اكتماله.

الثورة، أن ينبت على أرضك أمل يلامس أحلامك البعيدة ثم فجأة ينسحب البساط لتهبط أحلامك على أشواك تقتلها فهذا هو الألم وذاك هو السقوط الأكيد والهوة السحيقة

استمر معي أحدهم يهون علي ذاتي الضعيفة ويطمئن على حالتي المتدنية، لاحظت أنه يناديني باسمي، من أين لك باسمي يا رفيق ؟ هل تعرفني ؟ نعم .. تجمعنا صفحة واحدة على فيسبوك كمدراء، أنا من تعرفت عليه مؤخرا وانضممت إليك في صفحة الأدب، ابتسامة رائقة وأمل جديد يجمع الأشتات دون موعد أو اتفاق، الأحرار دوما على طريق واحد فإن عز اللقاء فكفى بالحلم جامعا.

انفض الأمر وبقيت على النيل أحاول أن أجد طريقا آمنا بعيدا عن المطاردات، ساقتني قدماي إلى أحد الأماكن التي تتغير فيها فجأة ملامح القاهرة، ضيق بعد اتساع، أكوام من القمامة تباغتك بالصدمة، هدوء وصمت ولا ندري إلى اتجاه نمضى، ظهور مفاجئ لمراهقين يبدو أنهم من سكان المنطقة، إلى أين أنتم ذاهبون ؟ نرد بأننا نريد الذهاب إلى رمسيس، سؤال مباغت أأنتم من أحدثتم كل هذه الضجة في الميدان؟ نعم ، " انتوا مية مية والله، تصدقوا بالله كنا هنثبتكم بس دلوقتي هنساعدكم ونوصلكم" ابتسامات وحمد لله على لطفه ثم وصول بعد معاناة إلى مكان يمكننا منه العودة إلى حيث نريد.

كموسيقى تصويرية أرى الثورة لحياتي، موسيقى تعزف كل ألوان المشاعر، وفي محاذاتها متأثر بها أنا حد الألم، متأثر بها إلى ذلك الحد الذي لا أتخيله، أن ينبت على أرضك أمل حقيقي بعد جدب، أمل يلامس أحلامك البعيدة، يجذبها من عليائها أن هلمي قد حان الوقت لتصبحي حقيقية، ثم فجأة ينسحب البساط لتهبط أحلامك العلية على أشواك تدميها وتقتلها وتمحيها! هذا هو الألم وذاك هو السقوط الأكيد والهوة السحيقة التي من بعدها تنطفئ أضواء الشباب ويموت فينا العمر وتحتلنا الكهولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.