شعار قسم مدونات

آخر عظام العربية في الصحافة

blogs - arabi
لا تكاد ناشئة المتعلمين من أبناء العريبة اليوم يطيقون قراءة كلمة مما يعتبرونه "حوشي الكلام"، حتى ليكاد استعمال كلمات في دلالتها الأصلية يعجم على ككثير من أبناء العربية.

حوشي الكلام هذه لا تنضبط لمقياس معين، وإنما تجري على ذوق السامع أو القارئ أو المتحدث.. يشكو إلي أحد كتاب الرواية، نقد بعض زملائه للغة أحد مشاريعه الروائية. يحاول زميلي أن ينقل أجواء القرن الثالث عبر لغة قريبة من لغة ذلك العصر؛ إنه يشبه في فعله هذا كبار كتاب الرواية حين يلجون باب العلوم أو يتحدثون عن الفضاء، أو يدخلون دهاليز مفوضيات الشرطة..

يتحدثون بمصطلحات لا يعقلها أبناء فنون أخرى.. لن يشكل هذا حاجزا أمام القارئ الحصيف، فهو سينتقل إلى جو المكان والزمان، لكنه يلغز على كسالى القراء الذين يتوقعون أن يقول لهم الجاحظ قبل ما يربو عن ألف عام: إنما عبرت عن هذا الرأي لأني أعتبر أن حاجة القارئ إليه ملحة أكثر من أي وقت مضى. ما أحب في الشيخ عارف حجاوي شيئا ككرهه لــ"لكليشيهات" التي يصب فيها الناس تعبيراتهم: أكثر من أي وقت مضى، إن دل على شيء فإنما يدل على.

عظام العربية تعبير للشيخ عارف، وهو يربك متعودي استخدام لفظ العظماء، للعظام، ولفظ العظام لمغلوفات اللحم.

الشيخ عارف يذم كسالى الأزواج مثلي، الذين يتعذرون بالانشغال عن مساعدة أزواجهم.. إنه يذمنا ثلاث مرات؛ بإتقان صنعة المطابخ، وبعدم الكسل عنها، وبالنشاط في العلم.

ما زال ولوعي بالشيخ عارف يشتد، حتى لا أذكره إلا قرأت له أو استمعت إلى شيء معاد منه، سمعته وكررت سماعه مرات ومرات.. يعجبني هتكه عرض أساليب الصحافة باهتباله الجمل الاسمية في كل بداية يبدؤها، ويعجبني تهتكه بالأكاديميين، ودراستهم للشعر العربي القديم، وأحكامهم النقدية.. وأعجب ما يعجبني في الشيخ عارف أنه يمسرح كتابته، كأنما تتحدث إليه حين تقرأ له!!

هذا ديدنه. في النحو كتب الشيخ عارف، وعن التاريخ قرأت بعضا مما نفثه قلمه عن نفسه وعن الصحافة. ولا تفارقني اللغة العالية في حل ولا سفر.

قضمت من طبخ يديه دجاجا محشوا في عامرته بالدوحة -شرفها الله-.. كان على وشك واحدة من مغادراتها التي يعزب فيها ببير زيت. منها استمعت إليه أول مرة في إذاعة بي بي سي.. لا أذكر التاريخ..

يومها كان الشيخ عارف يعصر الليمون بمهارته في إنشاد الحماسة، ويصُفُّ التبولة باحتراف مهرة "الشيفات".. كأنه ربيب مطابخ اليوم.. الشيخ عارف يذم كسالى الأزواج مثلي، الذين يتعذرون بالانشغال عن مساعدة أزواجهم.. إنه يذمنا ثلاث مرات؛ بإتقان صنعة المطابخ، وبعدم الكسل عنها، وبالنشاط في العلم، وبالجمع بين كل هذه المحامد.. إنهن أربع يا شيخ عارف.

همني انزعاجه من صدود يلقاه من ناشئة المتعلمة اليوم، وعلمت أن الدهر لا ينصف مثله، فكتبت إليه ليهنك العلم والتفرد شيخ العارفين، لكن الزمن عاقني عن النشر وضاعت مواساتي للشيخ.. فيما ضاع مع تفريطي وبدويتي.

"الفرزدق ليس بالشيء اليسير" أكاد أُسمع الفرزدق حين أروي له هذا القول عن بُعد فقد أروانيه ابن الدين عن الشيخ قبل يومين، فصار لزاما علي أن أعلن بيعتي للشيخ عارف، وقد أسررتها زمنا. لو سمعها الفرزدق لطار من قبره فرحا، ثم تعاوده تميميته فيصغي خده.. وما أنتم يا صحافة حتى تتناولوا شعري؟! وقد أسأت النحاة، وأنأتهم، وفرَقْت الشعراء، والخلفاء، فرقا.

من روائع الفرزدق أنه يحذيك بعض كلمات الشيخ كما ينطقها، وينقل معها الموسيقى ونفثة الروح العارفية.. الفرزدق ليس بالشيء اليسير.. هذا تعبير لا مقال لنقد بعده في شيخ الشعراء غير منازع. الشيخ بقية السلف في هذا الفن.

أما أنا فما زلت أقدم الفرزدق منذ عقلت، وأزعمه أشعر مضر. وما زلت أنتظر أول الشعر،"كتاب مختارات للشيخ عارف" لأرى فيه رأي الشيخ في هذا الذي ليس باليسير من الشيء. وللشيخ بيعة في عنقي ما حييت، إن لم أتناول بها شرح النقائض لأبي عبيدة، وقد اجتالني عنه الطمع حينا، فلا كانت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.