شعار قسم مدونات

لِلُّغَةِ.. ثُمَّ للتّاريخِ الآخر

Blogs - Books
لا أذكرُ متى تعرّفْتُ إلى مؤلفاتِ الأستاذ العميد طه حسين، ولا أذكر أوَّلَ مؤلَّفٍ قرأتُه له، لكن كل ما أذكره هو أنَّ العميد جعلني أشكُّ في كلِّ شيء شكًّا مؤدِّيًا إلى اليقين حتى في مؤلِّفات العميد نفسِه.

 

لا حاجة إلى التعريف بمؤلَّف العميد، في الشعر الجاهليّ، فهو غنيٌّ عن ذلك، وما إن نشره حتى نزل عليه سخطُ الأزهريّين، وويْلٌ للدّيكارتيّين من الأزهر، وكأنّي بالعميد كان واثقًا بما سيحدثُه مؤلًّفه من ضجَّة، حين قال في مقدّمة كتابِه "وأكاد أثِقُ بأنَّ فريقًا منهم سيلقَونَه ساخطينَ عليه." إنَّ الدخول إلى قراءة كتابٍ ما في ضَوْء مسلّمات مسبقة في ذهن القارئ حول الكتاب ومؤلِّفِه تحرمه الموضوعية، وتجعله لا يرى في ما يقرأ إلّا ما يريد رؤيتَه، وهذا عَيْنُ ما حصل مع مَن فنّدوا كتاب العميد، وإخالُ أنَّهم هضموا العميد حقَّه، فقد بات المنهج الديكارتي من أعظم المناهج التي يُمْكن تطويعها في قراءة التاريخ القديم المقبور في بطون الكتب والأسفار.

الرواة متّفقون على أنّ إسماعيل عليه السّلام قد تعلّم العربية من جُرْهم بعد أنْ صاهرها، وجُرْهم هذه قبيلة حِميَريّة، فلا فرْقَ بين اللغة العدنانيّة والقحطانيّة بالضّرورة.

لو تأمَّلْنا كتابَ العميد بعيْنٍ بصيرة مستبصرة لوجدناه نتيجةً منطقيَّةً لمجموعة من الأسباب التّراكمية، والتي بدأت من إخراج القدماء الشّعر الجاهليَّ من صَوْمعة الكاهن إلى صَوْمعةِ شواهدِهم النَّحْوية والصرفيّة والدّلاليّة، ما أفقده حاسَّته الدينيّة الوجوديّة، ما دفع العميد إلى التساؤل عن موضع الدين في الشعر الجاهليّ، وقد صدق العلّامة الأسد حين قال "لعلَّ الدّليل الدينيَّ والدليل اللُّغويَّ عمادُ بحث الدكتور طه حسين."
 

ذهب العميد إلى الطّعن في صحّة الشعر الجاهليِّ من خلال الدّليل اللّغويّ، ولو صحَّ ما ذهب إليْه لكان كما قال العلّامة الأسد أقوى الحجج، يرتكز هذا الدّليل على مرتكزيْنِ متضادّيْنِ استقاهما من القدماء، أولاهما: أنّ العرب منقسمون إلى عدنانيّة منازلهم الأولى في الحجاز وقحطانيّة منازلهم الأولى في اليمن، وأنّ القحطانيّة هم عرب منذ خلقهم الله فسُمّوا العاربة، وأنّ العدنانية قد اكتسبوا اللغة اكتسابًا فسُمّوا المستعربة، إذ كانوا يتكلّمون لغة أخرى هي العبرانيّة أو الكلدانية ثمّ تعلموا لغة العرب العاربة، ويتّصل نسب العدنانيّة بسيدنا إسماعيل عليه السلام، فكان أوّل من تكلّم بالعربيّة ونسي لسان أبيه.
 

أمّا المرتكز الآخر فهو أنّ هناك فرقًا بين اللغة العدنانيّة واللغة القحطانية، وهذا ما أثبته البحث الحديث عبر اكتشافه النّقوش القحطانيّة، وقول أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيّتهم بعربيّتنا، من قبل."
 

لقد تخبّط مفنِّدو كتاب العميد أمام الدّليل اللّغويّ خبط عشواء، ولو تأمّلنا ردودهم لوجدناها تحمل في أحشائها رأي العميد، ذلك لاعتماد العميد ومفنّديه على المصدر نفسِه.
 

ذهب السيّد محمد الخضر حسين في الرد على المرتكز الأول إلى مجاراة آراء بعض القدماء الذين ذهبوا إلى أنّ القحطانيّة من ولد إسماعيل، وكان الأجدر به ألّا يذهب هذا المذهب، فسواء أكانت القحطانية مَن تعلمت العربية من العدنانيّة أم العكس، فكلا المذهبيْن يثبت أنَّ اللّغتيْن واحدة لا اثنتيْن، ولأنّه سيجاري رأي العميد ويوافقه بعد وريْقات، فيناقض ما ذهب إليه فيقول: (فمن الممكن الميسور أن يتلقَّن إسماعيل عليه السّلام من قبيلة قحطانيّة اللغة العربيّة.. )، فالرواة متّفقون على أنّ إسماعيل عليه السّلام قد تعلّم العربية من جُرْهم بعد أنْ صاهرها، وجُرْهم هذه قبيلة حِميَريّة، ونحن مؤمنون كلّ الإيمان في ذلك، فلا فرْقَ بين اللغة العدنانيّة والقحطانيّة بالضّرورة.
 

ونجد أصْلَ حذفِ الألف إذا وقعت في وسط الكلمة في القرآن الكريم يمانيّة الأصل، مثل: (الرحمن)، و(الإنسن)، و(السموت)، فكان القحطانيّون يطرحونها مثل: (همدن) و (بنين)، وما هذا إلّا غيْض من فيْض، وسأذهب وإيّاك إلى المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام للأستاذ العلّامة جواد علي لنقرأَ في تلبيات أهل اليمن "لبّيكَ عن حِميَر وهمدان، والحليفيْن من حاشد والهان"، و"لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك إنّ جرهمًا عبادك، الناس طرف وهم تلادك". إن كان هذا صحيحًا، فماذا عن رأيِ ابن أبي العلاء وما أثبته العلم الحديث؟
 

العدنانية والقحطانية لا تعدو إلّا أن تكون مجرّد مسألة أنساب، لا لغة، فاللّغة لا تشكل فرقا بينهما.

قلْنا فيما سبق: لم يختلف رأي مفنّدي آراء العميد عنه، اللّهم إلّا في التّأويل، فقالوا عن النقوش المكتشفة: (ونحن لا ننازع فيما دلّت عليه الآثار المخطوطة من أنّ اللغة القحطانيّة كانت كلغة أجنبية عن العدنانيّة)، ونحن ننازع العميد ومفنّدي كتابه والنّقوش فيما دلّت عليْه لنتساءلَ: ما الذي يثبت أنّ هذه النصوص قحطانيّة؟، قد تقول لي: وُجِدت في اليمن، فأقول لك: لا اعتبار إلى ذلك من نواحٍ عدّة، فالنقوش تُثبت لغة الكتابة لا لغة اللسان، والفرق هامٌّ جدًّا بينهما، فإليْكَ ما قاله الدكتور جورجي زيدان في حديثِه عن الأنباط: (أمّا لسانهم الذي كانوا يتفاهمون به فإنّه عربيّ مثل أسمائهم، ولا عبرة بما وجدوه منقوشًا على آثارهم باللغة الآراميّة، فإنّها لغة الكتابة في ذلك العهد مثل الفصحى في أيّامنا، وذلك كان شأن الدّول القديمة بالشّرق، ولا سيّما فيما يتعلّق بالآثار الدينيّة والسّياسيّة).
 

ولك مثالٌ من واقعِنا: نحن عرب نسكن في بلادٍ عربيّة، ونتحدّث العربية، بيْدَ أنّ لغة العلم في الأعم الأغلب هي الإنجليزيّة لا العربية، فلو غدوْنا يومًا ما أطلالًا، وجاء الآركيولوجيّون لدراسةِ آثارِنا، فوجدوا مخطوطاتٍ مكتوبة باللغة الإنجليزيّة، أيصحُّ أن يقولوا: إنّ سكّان هذه المنطقة كانوا يتحدّثون اللّغة الإنجليزيّة؟، الإجابة بالنفي طبعا.
 

حسنًا، لو سلّمنا بكلِّ ما قلنْاه، ونحن مسلِّمون، فلغة أيٍّ هذه النّقوش؟، لقد قال العميد في كتابِه المعدَّل جملة هامّة حولَ هذه النقوش: (وهي أقرب إلى اللغة الحبشيّة)، نستغفر الله، بل هي حبشيّة، أمّا عن وصولِها اليمن، فأمامنا فرضان، إمّا أن نجاري رأي العلماء الذين ذهبوا إلى أنَّ مملكة سبأ كانت في الحبشة واليمن، وهم الذين يرَون أنّ الحبشة أصل اليمن، فتكون الحبشيّة لغة الكتابة الدينيّة، والعربية لغة اللّسان، أو أن نعدّ هذه النّقوش قد كشفت لنا فترة حدوث غزو حبشيٍّ لمملكة اليمن إن أخذنا المملكتيْن على اعتبار سياسيٍّ لا جغرافيٍّ.
 

ولنا أن نتّكئ على الميثيلوجيا في إثبات ذلك، فنجد في النّقوش التي أوردها العميد ذِكرًا للإله (المقة)، وإليك أحدها (وهبم وأخهو بنو كلبت هقنيو إل مقة ذهرن ذن مزدن حجن وقههمو بمسألهو لو فيهمو وسعدهمو نعمتم)، فالمقة هو إلهٌ عُرِف في اليمن والحبشة.
 

ولو تأملْت النصّ الذي أوردته من كتاب العميد لظهر لك أنّه يستحيل، إذا اعتبرناه نصًّا قحطانيًّا، أن يذوب مع اللّغة العدنانيّة، لما يبدو من فرقٍ عظيمٍ، ويبدو أنّ مفنّديه كانوا يواسون أنفسَهم حين ذهبوا إلى أنّ الخلاف بين اللغتيْن قد ذهب في عهد يتقدّم ظهور الإسلام بعشرات السّنين.
 

ويبدو أن ابن أبي العلاء في مقولتِه قد كان له حاجة في نفسِ يعقوب قضاها، ويكفي بالإكليل تفنيدًا لذلك، فالعدنانية والقحطانية لا تعدو إلّا أن تكون مجرّد مسألة أنساب، لا لغة، فاللّغة هي هي لا فرق بينهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.