شعار قسم مدونات

الأخلاق والحرية (1)

blogs - human
لا يُمكننا الحديث عن الأخلاق بدون الاستناد إلى المبدأ الإنساني الأكثر خطورة، مبدأ التقييم. لقد تطرقت إلى هذا المبدأ في مقالات سابقة، وأدين به للفيلسوف "نيتشه"-نقيض المسيح، أكبر ناقد للأخلاق. وسوف أستخدمه كمبدأ أساسي في تحليل الأخلاق.

فنحنُ البشر نميل لإعطاء القيمة للأشياء والأفعال وكذلك للأشخاص الآخرين باستمرار، بوعي أو بدون وعي، لدرجة أننا يُمكن أن نقول مثلما أن الإنسان هو كائن مُفكِّر، فهو أيضاً كائن مُقَيِّم، يمارس عملية التقييم، ويربط كل شيء بالقيمة، ابتداءاً من الأشياء التافهة -والتي هي كذلك بسبب هذا المبدأ، مبدأ التقييم-و انتهاءاً بالحياة نفسها.

عندما نقول إنسان حُر في مجتمع ما، فنحن نتكلم عن إنسان حُر وفقاً لتعريف محدد للحُرية، يحدده أو يسمح به ذلك المجتمع.

فالحياة حياة الإنسان قد تأخذ قيمة ما، فقد يتساءل أحد الناس ما هي قيمة حياتي التي أحياها الآن؟ وقد يقرر بناءً على اجابته أن يستمر فيها، أو أن يمنحها قيمة (أو معنى) ما، (وهُنا نواجه مفهوم المعنى والذي يُمكن اعتباره مفهوماً تابعاً لمبدأ التقييم) أو قد يقرر هذا الإنسان الذي يتساءل عن قيمة حياته، أن ينهيها منتحراً مثلاً، بوصفها شيئاً بلا أي قيمة ولا أي معنى، مثلما يفعل البعض.

إن مفهوم المعنى، ذلك المفهوم الغامض، يرتبط ارتباطاً شديداً بمبدأ التقييم، فالأشياء تكون ذات معنى، والحياة تكون ذات معنى، وفقاً لعملية تقييم معينة. فالمعنى هو قيمة يتم إضفاءها على الأشياء. فأن تكون الأشياء أو الحياة نفسها ذات معنى، يعني أن لها قيمة. وكلٌ من القيمة والمعنى كأفكار أو كشعور ليس لها وجود في الأشياء، وإنما توجد في الإنسان. فالحياة على سبيل المثال، نحنُ قد لا نستطيع أن نحدد ماهيتها بالضبط، ولا أن نحيط بها بأي شكل طالما أننا مجرد جزءٌ منها، وجزء صغير للغاية، ومع ذلك قد يكون لدينا تقييم وحُكم على الحياة، هذا الحكم في الواقع هو مجرد شعورنا الذاتي، إحساسنا الخاص، أما الحياة في نفسها، فهي شيء لا يُمكن أن يكون موضوعاً للحُكم بشكل موضوعي، فهي ليست سيئة ولا جيدة، ولا جميلة ولا بشعة، هي شيءٌ ما وراء كل ذلك، "ما وراء الخير الشر" حسب تعبير نيتشه.

إن الشعور بالمعنى وبالقيمة، هو شيء داخلي في الإنسان، ولا وُجود لمعنى خارج الإنسان في الحياة والأشياء. وهذا الشعور موجود بسبب التقييم كشيء يمارسه الإنسان من حيث هو إنسان.

الآن، وبعد هذا الإيضاح، يُمكننا أن نطرح قضية معنى وقيمة الأخلاق. كيف يتم تقييم ما هو أخلاقي ومتى يكون الفعل الأخلاقي ذو معنى؟ أو متى يستحق فعلٌ ما صفة "الأخلاقي"، على اعتبار أن "الأخلاقي" هو بحد ذاته قيمة. ولكن هذا الاعتبار الأخير بالذات يُمكن أن يكون هو أيضاً موضوع مساءلة: من أين تستمد الأخلاق قيمتها؟

هُناك قضية أخرى مهمة، وهي المستوى الذي تُطرح فيه هذه الأسئلة، أعني هل هي مطروحة على مستوى الفرد، أم على مستوى المجتمع؟

سأبدأ بالمستوى الفردي، ومن خلاله أدخل إلى المستوى الاجتماعي، ففي النهاية الفرد لا يُوجد إلا كعضو في مجتمع، خصوصاً حينما يكون السياق هو الأخلاق. إذ أن وجود الفرد الذي يعيش معزولاً -إن كان هذا ممكنا- لا يطرح قضايا أخلاقية مثيرة للاهتمام. فالأخلاق توجد في سياق اجتماعي، والحُرية كذلك ليست قضية مهمة إلا في سياق اجتماعي، كما سأتناولها هنا في علاقتها مع الأخلاق.

"إن معنى الأخلاق يكمُن في الحُرية، وقيمتها كذلك" هكذا يقرر المبدأ الأكثر خطورة في يد الإنسان، أعني مبدأ التقييم. كما نفعل كثيراً، بواسطة هذا المبدأ، حينما نمنح الفعل الأخلاقي قيمة، أي أن نعتبره "فضيلة" حقيقة، فقط عندما يكون صادراً عن إرادة حُرة. فالإنسان المُكره أو المُجبر على الأخلاق والفضيلة، لا يُمكن أن يكون إنساناً أخلاقياً، أو صاحب فضيلة.

بلا حُرية لا معنى للأخلاق، هكذا نقول، أو بعضنا على الأقل. إذ يجب ان يكون الإنسان حُراً قبل كل شيء. ولكن ما هي الحُرية؟

البعض الآخر منّا، قد يعتبر أن الشعور الطيِّب، أو النيّة الحسنة التي تصاحب الفعل هي التي تعطيه القيمة الأخلاقية. فلا يهم هُنا إن كنتُ حُراً أو مُكرهاً. المهم هو أن أملك شعوراً طيّباً مصاحباً للفعل. ولكن مشكلة مبدأ التقييم تظل تلاحقنا هُنا أيضاً، إن الشعور الطيّب ينطوي على عمليّة تقييم، وعلى رؤية ومبادئ، كما أن الطريق إلى الجحيم قد يكون مفروشاً بالنوايا الحسنة، وهذه عملية تقييم أُخرى.

"قيمة ما هو أخلاقي تحددها مرجعية متجاوزة ومتعالية" هكذا قد تقترح رؤية دينية للأخلاق، هُنا الفعل الأخلاقي معفي من جميع أنواع التقييم التي قد يمارسها الإنسان، ومعفي كذلك من أي تبرير عقلاني، المرجعية المتجاوزة هي المعيار ومصدر القيمة والمعنى. وسوف نناقش هذه المعايير تباعاً.

بالعودة إلى الحُرية كمعيار للتقييم، كنت قد تساءلت في نهاية الفقرة " ولكن ما هي الحُرية؟". ما هي هذه الحرية التي نعتقد أننا نصدر عنها حينما نقوم بالأفعال الفاضلة؟ ما معنى هذه الكلمة "حرية" أساساً في السياق الاجتماعي؟

إنسان حُر في مجتمع ما، يعني إنسان يعيش وفقاً لقوانين هذا المجتمع، سواءٌ أكان هذا المجتمع هو مجتمع القبيلة، أو مجتمع القرية، أو كان مجتمعاً حديثاً أو حتى ما بعد حديث. إن كُل حرية توجد ضمن شروط اجتماعية، ولا توجد حرية غير مشروطة اجتماعياً وتاريخياً. ولذلك عندما نقول إنسان حُر في مجتمع ما، فنحن نتكلم عن إنسان حُر وفقاً لتعريف محدد للحُرية، يحدده أو يسمح به ذلك المجتمع.

ماذا عن الإنسان الذي ينتهك هذه القوانين والتحديدات؟ سيفقد حُريته أو وجوده الاجتماعي حرفياً. ما لم يكن فوق القانون أو خارج نطاقه بشكل من الأشكال، كأن يكون هو الطاغية الذي فوق الجميع، ومع ذلك فحتى الطغاة مضطرون للتظاهُر على الأقل بالخضوع للتحديد الاجتماعي للإنسان الحُر. ولذلك يُمكن اعتبار الانسان الخارج على التحديد الاجتماعي للحرية مجرد استثناء.

إن الضمير نفسه لا يُمكن أن يُوجد في الفراغ، فهو أيضاً يُوجد في سياق اجتماعي وتاريخي.. هو شيءٌ يتم خلقه وتكوينه فينا.

ومن هُنا فإن الحُرية كمعيار لتقييم الفعل الأخلاقي، ليست بهذه المعيارية التي قد تبدو عليها للوهلة الأولى. فالإنسان الحُر، بما أنه يكون حُراً وفقاً للتحديد الاجتماعي والتاريخي، وبما أنه-بالإضافة إلى ذلك- يملك وعياً محدداً بنفس السياق الاجتماعي والتاريخي، فإنه ليس حُراً بالمعنى الذي توهم به كلمة "حُر" كثيراً، لا في تحديد ما هو أخلاقي على مستوى الوعي والفكر، ولا في الممارسة الأخلاقية العملية. أي هو أيضاً خاضع للإكراهات الاجتماعية حتى حين يفكِّر في قرارة ذاته، وحتى حين يمارس الأخلاق كموقف عملي بكامل "إرادته".

نحنُ نطلق صفة الحُرية على الأفكار والأفعال التي يمارسها الإنسان بدون تأثير من الآخرين، في حين أنه من المستحيل أن يفكِّر أو أن يفعل الإنسان أي شيء بدون تأثير من "الآخرين". فحتى حينما يكون الإنسان في حضرة "ضميره" الخاص وحيداً، فهو لا يفكِّر كفرد معزول عن الآخرين. إن الضمير نفسه لا يُمكن أن يُوجد في الفراغ، فهو أيضاً يُوجد في سياق اجتماعي وتاريخي.. هو شيءٌ يتم خلقه وتكوينه فينا، وليس هُناك إنسان يخلق ضميره بنفسه، باستثناء أولئك الذين يشبُّون وسط الحيوانات الأخرى بالطبع.

إذن، الأخلاق وبما أنها أمرٌ يتعلق بالصلة مع الآخرين، إذا تجاهلنا الحيوانات الأُخرى، هي شيء مثل الحُرية لا توجد إلا على مستوى اجتماعي، أي أنها لا تُوجد مجردة. فليس هناك شيء مجرد اسمه حُرية موجود في الإنسان الفرد المعزول، وكذلك ليس هُناك فعلٌ فردي أخلاقي حُر. وإنما هُناك فعلٌ فردي إنساني صادرٌ عن عقل، وهذا العقل أيضاً بما أنه ليس شيئاً مجرداً، ليس شيئاً فوق الاجتماع والتاريخ، فهو يتحرك ويشتغل من خلال لغة أفكار ومفاهيم ومشاعر محددة بواسطة الاجتماع والتاريخ. ولذلك فإن الفعل الأخلاقي الحُر هو مجرد فكرة جميلة لا وُجود لها على أرض الواقع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.