شعار قسم مدونات

كُسيريات

للتصلاىكبلات

دائمًا ما يتحدث الرياضياتيون عن تلك الحالة الغامرة من الجمال المُجرد التي يختبرها كل من يعمل بالرياضيات. هُم يصفون الأمر وكأنه تجربة روحية خالصة.. لا، بل في بعض الأحيان كتجربة دينية من فرط حدته.

يتحدثون عن عبور الوعي إلى الجانب الآخر من بوابة الحقيقة، إلى ذلك الجانب الذي تهيم فيه الكليات. يتحدثون عن طقوس ختمهم لتلك الكُليات في رموز، وعن نشوة جلبها للجانب الآخر من العالم. إلى الجانب الذي نسكنه. تلك الرموز.. تلك الكُليات التي تحملها الرموز.. هذا هو ما نُطلق عليه نحن الرياضيات.

 الكسيريات.. هو علم يُمكّن من ترجمة الأفكار الرياضية إلى صور، وهي اللُغة التي يُمكن لكُل البشر فهمها

بالطبع، ليس بإمكان الجميع رؤية ما يتحدثون عنه. المرور بتجربة عقلية بتلك الكثافة يتطلب معرفة بالرياضيات تتخطى الجمع والطرح بكل تأكيد.

لكن لحُسن الحظ، لا تزال هناك بعض الفروع الرياضية التي تسمح لنا بالنظر عبر ثُقب الباب والاطلاع على تلك العوالم التي يتحدثون عنها. في تلك الفروع يُمكن ترجمة الأفكار الرياضية إلى صور، وهي اللُغة التي يُمكن لكُل البشر فهمها.

undefined

undefined

undefined

الصور السابقة هي "لقطات" من أكوان لانهائية، يسكُن كُل كون منها في مُعادلة رياضية.

حسنًا، فلنُحاول صياغة الأمر بصُورة أُخرى: المُعادلات الرياضية المُستخدمة في توليد هذه الصور تحمل بداخلها كافة المعلومات اللازمة لبناء أكوان لانهائية الاتساع، وهذه الأكوان يُمكن "التجول بداخلها" والتقاط صور كالتي بالأعلى. (رُبما أنا بحاجة للتحدث عن ماهية "المالانهاية" عند هذه النُقطة، ولكن بما أن الموضوع سيطول فسأدعه لمقالات قادمة).

هُناك اسم رياضي لتلك الأكوان: "كُسيريات"  (Fractals) (بإمكانك استخدام التسمية الإنجليزية للبحث عن المزيد من الصور). علم الكُسيريات هو أحد الفروع الرياضية التي تهتم بدراسة هندسة مجموعات رياضية وظواهر طبيعية معينة تتميز بوجود نمط مُعين غير مُنتظم (Irregular Pattern) يتكرر على جميع مستويات التكبير، بحيث تتشابه الأجزاء إلى حد كبير مع الكُل الذي تكوّنه. على سبيل المثال، تشعبات الأنهار وأغصان الأشجار تنتمي إلى هذه الفئة.
 

قد يكون من المُغري الاعتقاد بأن الكُسيريات تنتمي للرياضيات البحتة، ولكن في حقيقة الأمر هي تظهر بشكل مُفاجئ في عدد هائل من التطبيقات العملية. بداية من الطب وعلوم الأعصاب والتصوير الطبي وعلم الأمراض، مرورًا بالجيولوجيا والجغرافيا و ميكانيكا التربة وعلم الآثار، وصولًا للهوائيات والإلكترونيات وتحليل الإشارات! وبالطبع، الفنون.

الفلسفة التي تتشارك فيها الفنون الإسلامية هي اعتماد الرمزية بديلًا عن التجسيد كوسيلة لتمثيل الموجودات

وعلى ذكر الفنون، ألم تذكرك الصور السابقة بشيء مألوف؟

نعم، هُناك تشابه لا تُخطئه العين بين الكُسيريات وبين نمط الزخرفة الهندسية في الفن الإسلامي، ولهذا السبب بدأت في البحث عن أية مصادر تتحدث عن الأمر. الدراسات الأكاديمية عن الموضوع موجودة، لكنها محدودة جدًا وتُقدم مُقاربات غير كاملة، مما يجعل منه موضوعًا بحثيًا ثريًا غير مطروق.

أحد المقالات المُثيرة للاهتمام التي قابلتني خلال البحث حاولت تفسير الفلسفة المُضمّنة في الزخارف الإسلامية بالاعتماد على أسباب ظهورها من الأساس. نتيجة لكون تعاليم الدين الإسلامي تُحرّم تمثيل الكائنات الحية الحيوانية على صورتها. ظهرت ثلاثة أنواع من الفنون غير التصويرية المُرتبطة بالفكر الإسلامي: الزخارف الهندسية، الزخارف النباتية، والخط العربي.

الفلسفة التي تتشارك فيها هذه الفنون هي اعتماد الرمزية بديلًا عن التجسيد كوسيلة لتمثيل الموجودات، وبهذا فهي تركز على إبراز الصفات الروحانية بدلًا من التركيز على الصفات المادية. وبالطبع، لا شيء يتفوق على الرياضيات عندما نتحدث عن الرمزية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.