شعار قسم مدونات

مقامرة حرية

مقامرة

كعجوز تحفظ تفاصيل المكان وكائناته المهملة، تعرف مكان الإبرة في عروة الستارة، الزر المقطوع في جراب الأزرار المنسية، وأين تختبئ "مزيتة" الأبواب الصدئة، ترمي ملعقة القهوة في "مجلى" المطبخ وتعود إليها بعد أسبوعين لتجدها ما زالت في مكانها، تحتفظ بدمعة قهوة جافة.. هكذا أنا. عندما يصبح كل المحيط جزءا من رتابتي والمكان خصما مطيعا لا يصنع الدهشة.. ألملم أشيائي وأعلن الرحيل إلى مكان جديد بحثا عن الدهشة واكتشاف المختلف!
 

اليوم أنا أكتب هنا بحثا عن الدهشة وسعيا لاكتشاف الجديد. أنا اليوم أعيش كساكن حديث، ما زلت أتلمس أدراج المدونة

ولأن الصحيفة بمعناها المطلق هي مكان الإقامة الروحية للكاتب، وهي سقفه الذي يظلله من حرّ الحدث ويحميه من عراء الكلمة.. ونتيجة تكاثر المفردات وبلوغ بنات الأفكار عنده سن الرشد، فقد ينتقل ربُّ الفكرة من وسيلة إعلامية إلى وسيلة إعلامية جديدة أكثر اتساعا وأكثر علوا وأكثر تصالحا مع الشمس كمقر إقامة جديدة للحرف.
 

اليوم أنا أكتب هنا بحثا عن الدهشة وسعيا لاكتشاف الجديد. أنا اليوم أعيش كساكن حديث، ما زلت أتلمس أدراج المدونة، أعدّ على الأصابع طوابقها وأقسامها، أتوه بين مداخلها ومخارجها، أجرب مقاسات المفاتيح عند باب كل فقرة، وأجول بنظري إلى السقف. صحيح!! لماذا أول ما يلج قاطن البيت الجديد ينظر إلى السقف؟ أهو الخوف من الانكشاف، أو التأكد من متانة الحماية، أم محاولة لمعرفة سرعة ارتداد الصوت وانكسار الخيال؟
 

على أية حال أنا سعيد بهذا الاختيار، سعيد بهذا الانتقال. وقع أقدامي في هذا المكان غير المؤثث يوحي أنني إنسان لي حيز في فراغ المكان، لست نملة ولا نفخة ريح تداعب وجه الأرض. أنا سعيد بأنني سأعيد ترتيب مقتنياتي اللغوية هنا، أغير ترتيب براويز المقالات، وطريقة الاتكاء وقت المساء، وأغير وجه الوسادة حتى تنام الفكرة دون قلق.
 

سأكون جديدا بكل شيء، مسالما كأي جار يتخذ بيتا في بناية لا يعرف فيها أحدا. لذا سأحاول ألا أثير الجلبة كي لا ألفت انتباه الجيران. أنا مشغول في زاويتي فقط، في بيتي، في مكان إقامتي، سأتفقّد صنابير الإلهام إن كانت تعمل كما يجب، ومصابيح الاشتعال إن كانت بحاجة إلى صيانة في هذا المكان الجديد. سأسكب حبرا فوق بلاط السطور لأتأكد إن كان تصريف الفكرة يجري كما يجب، أخلع معاطف الرسمية وأرتدي "روب" السخرية كما أنا دائما.
 

الفراغ يشعرني بالحرية، حيطان الورق تشعرني أنني محور المكان لا قطعة ديكور فيه

التأثيث يأتي تباعا، لست مستعجلا على الاكتظاظ، لست مستعجلا على ملء الفراغات بأي شيء، أريد كل قطعة أن تختار هي مكانها، الفراغ يشعرني بالحرية، حيطان الورق تشعرني أنني محور المكان لا قطعة ديكور فيه. لن أركّب ستائر للنوافذ كي لا أضطر لوضع إبرة زائدة في عراها، كما سأفرغ "مزيتة" الأبواب الصدئة في زوايا ذاكرتي كي لا تصدر صريرا كلما خرج منها أحدهم، سأرمي كل الأزرار المقطوعة كما فعلت بأسناني اللبنية زمن الطفولة، لا شيء يستحق الاحتفاظ به طوال العمر.
 

قلت إنني لم أحضر معي شيئا سوى حقيبة الأفكار. بالمناسبة أنا غير ملزم باستخدامها كاملة، أنا أتأبطها فقط لتؤنسني، هي بيتي المتنقل، في حال ضاقت بي كل البيوت أفتحها وأنام فيها كأي عربي خسر وطنه في مقامرات الحرية. الحقيبة فيها سقف وفيها أرض وفيها حدود هي وطني فيما لو شحّت الأوطان.
 

قلت أنا غير ملزم باستخدامها كاملة، هي فقط لتؤنسني، سأفتحها عند الحاجة وأعلق ما شئت منها في خزانة الزمن. الآن سأرفع رايتي فوق ساريتها وأنا أردد ما أحفظ من "النشيج" الوطني!! أنا الآن أدشن وطني الجديد وطن الورق. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.