شعار قسم مدونات

التدوين والعزف على لوحة المفاتيح

blogs تدوين

عندما أخذت القلم أول مرة عازما على الكتابة، نظرت إلى الورقة لحظات وتساءلت: كيف كانت رحلة هذه الورقة؟ كانت في الأصل شجرة شاهقة تلامس العَنان.. قطعها إنسان.. حولها إلى نوعان.. نوع لحطب التدفئة وبناء الجدران.. ونوع لصنع الورق خدمة للبيان.. كأن هذه الرحلة قسمت الاقتصاد إلى قسمان، اقتصاد صناعي واقتصاد معرفي.

تلك كانت رحلة ورقة، ومن نظرتي التأملية لها بدأت رحلتي مع الحرف، فحينما سئل الكاتب والأديب التركي أورهان باموق – الحاصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 2006: لماذا تكتب؟ كان مما قال: "أكتب لأن تلك رغبتي، أكتب لأنني لا أقدر على القيام بشيء آخر غير الكتابة.. أكتب لأنه يروق لي أن أنزوي في غرفتي اليوم كله. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها، أكتب حتى يعرف العالم أجمع أي حياة عشنا، وأي حياة نعيش، أكتب لأنني أحب رائحة الورق والحبر.. أكتب لأن الكتابة عادة وشغف".

كنت أحب التدوين قبل عشر سنوات وأهوى العزف على لوحة المفاتيح اليوم من أجل حمل مشعل والدي وتحقيق هدف معلمي والإسهام في رد الاعتبار للحرف العربي

وأنا طبعا لا أكتب لأوسخ الأوراق البيضاء بالحبر رغبة مني لانتزاع بياضها، إنما أكتب خدمة لقسم الاقتصاد المعرفي الذي من أجله صنع الورق والقلم والحبر.. أكتب لأعيش دور من قرأت لهم ذات يوم ولإيماني بأن هناك في الجهة المقابلة من يقرأ.. أكتب لأرحل بقارئ حروفي إلى عوالم رحلت إليها بجسدي أو بفكري وخيالي، أكتب لأخفف عن قلبي هم الأحداث وعن عقلي ثقل الأفكار.. نعم، أكتب لأعيش من جديد، بل لأحيى أصلا لا لأعيش.

وقد أكون ورثت عن والدي رحمه الله هواية التدوين والكتابة في أدب الرحلة، إذ كان منذ شبابه يدون تواريخ وأماكن عمله كما يدون رحلاته وأسفاره وأبرز الأحداث والمواقف التي تمر عليه، كما يحب السؤال عن عادات البلدان الأخرى واستكشاف الثقافات المتنوعة، فتجد مكتبته اليوم شاهدة هوامش وأغلفة كتبها على مراحل عدة من حياته وحاملة بعضا من تجاربه وخبراته.

 
كما أظن أن الأستاذ عبد الله عزيزي -معلم اللغة العربية في الابتدائي- لم يكن يعلمنا الفرق بين "أل الشمسية" و"أل القمرية" والنحو والصرف والإعراب من أجل أن ننجح في امتحان التعبير والإنشاء، لكن حرصه على تعليمنا وتقويم مستوانا كان لهدف أسمى وغاية عظمى وهي أن نتقن الكتابة ونتفنن في التدوين يوما ما..

فإن كنت أحب التدوين قبل عشر سنوات وأهوى العزف على لوحة المفاتيح اليوم، فهذا من أجل حمل مشعل والدي وتحقيق هدف معلمي والإسهام في رد الاعتبار للحرف العربي، ونقل ما يجول في خاطري لأصدقائي وأقراني، ووضع بصمات على مذكراتي بقلمي كي يقرأ حروفي أحفادي بعد أولادي.

وأجد في التدوين أيضا شغفا باعتباره قاعدة صلبة للتأليف، بل هناك العديد من المؤلفات أصبحت كتبا بعد أن كانت مجرد قصاصات يتيمة متناثرة، اختلفت مصادرها وأماكن كتابتها وأسباب تدوينها وحتى الأقلام التي كتبت بها، قبل أن تجمع وتنسق وتخرج وتنشر ككتاب "كناشة النوادر" لعبد السلام هارون مثلا..

ومن يختزل ‫‏التدوين بوجه خاص والإعلام بشكل عام في وصف المكشوف من عورات المجتمعات والشعوب والأمم، ويمشي عكس القيمة المطلقة للأحداث لابسا نظارة الحراسة الخاصة، فقد حجَّر واسعا.. فالتدوين أكبر من مجرد كشف المكشوف وتعكير العينين بالسواد لرؤية الكسوف!!

بعد أن عشت مرحلتَيْ المستهلك والمتفاعل وانتقلت لمرحلة الفاعل، أقدم نصيحتي لقلمي ولكل مدون: قبل أن تعزف بأصابعك على لوحة المفاتيح تذكر جيدا أنك ستحاسب على كل نوتة كلامية تكتبها

فالإعلام الرسمي له خط تحرير أحادي الاتجاه، يمجد ما شاء ويذم من شاء ولا يمثل كل أطياف الوطن، وحياة أغلب وسائل الإعلام الحرة – التقليدية منها والحديثة – مبنية على السباحة ضد التيار حتى تحقق مصالحها وتعود للسباحة مع التيار، عكس دورة حياة سمك السلمون تماما.

لذلك تجد المدونين وكتاب الرأي متعطشون لمنابر حرة حقا وحيادية تماما، وأظن أن ما ستضيفه مدونات الجزيرة للمدونين هو كونها منصة جماعية تتسع لكل الآراء وكل أطياف وألوان وأقلام الأمة العربية، وجمعها للكتاب الكبار والمدونين الشغوفين والهواة، وهذا بدوره سيكون قوة المشروع لأننا نتجه اليوم صوب التدوين الجماعي أو ما يمكن أن نسميه "مواقع التدوين الاجتماعي"، بدل التدوين الفردي عن طريق مواقع شخصية وتغريد كل مدون في قفصه، خصوصا مع تطور أدوات التدوين من الكتابة فقط إلى التدوين الصوتي والتدوين المرئي، وكذا نضج القارئ وانتقاله من مجرد مستهلك للحرف إلى قارئ متفاعل مع الحرف.

وبعد أن عشت مرحلتَيْ المستهلك والمتفاعل وانتقلت لمرحلة الفاعل، أقدم نصيحتي لقلمي ولكل مدون: قبل أن تعزف بأصابعك على لوحة المفاتيح تذكر جيدا أنك ستحاسب على كل نوتة كلامية تكتبها، قرابة الثلاثين حرفا مع حركات توضح المضمون، اعزف بها عبارات تفتح لك قلوبا وتضم لك صدورا.. احذر من أن تكسر بها نفوسا أو تشدد بها على عقول، فأغلب التشديد لا يأتي بعده سكون.

وفي رأيي يبقى ‫التدوين بالقلم على المذكرة أفضل من العزف على لوحات الهاتف والحاسوب، حيث تحس بوقع الحروف وتناغم الكلمات لبناء الخواطر.. فالحبر والمحبرة والورقة ثلاثة أصول للتدوين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.