شعار قسم مدونات

جناية الوعاظ: إسراج بلا زيت

BLOGS - LAMP
 
((كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء، ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال وتعلق بهم العوام والنساء)).
ابن الجوزي

(1)
لم يكن ترتيب هذا المقال في سلسلتي التي أكتبها هنا ليجعله مقال اليوم، لكن مجريات الأحداث خلال الأسبوعين الماضيين حملتني على أن أستعجل ببيان داء من أخطر الأدواء التي أضرت بالعمل الإسلامي، أعني تصدر الوعاظ ممن ليسوا من العلماء والفقهاء ليكونوا هم رؤوس الناس، ويُنظر إليهم نظر الناس لأهل سداد الرأي وصواب العمل.

أصل الوعظ أنه شعبة من رسالة النبوة التي بعثها الله لتوقظ فيك تلك الفطرة العتيقة التي احتوشتها الظلمة، وطواها النسيان.

لدينا في البداية حقيقتان أساسيتان:
الأولى: أن الوعظ هو التذكير بمحكمات الحق ونشرها في طبقات الناس المختلفة، وهذه وظيفة شريفة بل هي من وظائف الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وكانت عبر تاريخنا مما يتصدى لها العلماء والفقهاء.

واشتغل بها أيضًا أناس دون العلماء والفقهاء، دخلوها بزاد قليل؛ طمعًا في أجر بلاغ الدين، واتكالًا على أن الوعظ خطاب بالمحكمات فلا يحتاج إلى قدر زائد من العلم، وكانت هذه الطبقة تسمى: بالقُصاص أو المُذكرين غالبًا، وبالوعاظ أحيانًا.

والوعظ شعبة إيمانية عظيمة جدًّا عندي؛ لأن هذه الحياة بعجلتها الطاحنة ومحنها سراء وضراء، ونقص الإنسان والتعثرات التي تحدث لإيمانه= كفيلةٌ بأن تبتعد به عن حبل الله لو لم يكن له صلة تصله دائمًا بهذا الحبل. والصِلات متنوعة فمنها الذكر والقرآن والصلاة والصحبة الصالحة، لكن من أجلِّها وأعظمها: الوعظ، خاصة إن كان على هدى من الله وكان ممن جمع إلى الوعظ الفقه فقلما يخلط بوعظه محدثات الأمور.

وعظ الواعظين إنما هو يد الشفقة التي تهز قلبك، تريد أن توقظ واعظ الله فيه؛ فإنه متى تيقظ= حال دونك ودون محارم الله، فأصل الوعظ أنه شعبة من رسالة النبوة التي بعثها الله لتوقظ فيك تلك الفطرة العتيقة التي احتوشتها الظلمة، وطواها النسيان.
والوعظ بعد هذا وسيلة إعلامية تقوم مقام القناة الوسيطة بين الطبقة الأولى من العلماء والفقهاء وبين العامة، فهي بمنزلة التثقيف الشعبي في الحضارة الحديثة.

الثانية: أن الوعظ وغيره من شعب الإيمان لا يُكسب القائم عليه عصمة من الغلط، ولا يعطيه حصانة من النقد، ولو صار سداد كل مسلم لشعبة إيمانية -ولو عظمت- حجابًا عن نقده، وبيان خطئه وضلالته= لجمدت شعائر الأمر والنهي، وصرنا أقبح من اليهود، لا نتناهى عن المنكرات لكننا نغطيها بغطاء من خداع شعاره: مصلحة الدعوة وصيانة الدعاة عن السقوط من أعين الناس، وهي تعبيرات مخادعة تستر تحتها نفس ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سرق فيهم الشريف تركوه.

وتراثنا يدلنا على عظمة أسلافنا وفساد مفاهيمنا، ففيه من الأدبيات في نقد الوعاظ والقصاص والمذكرين بل والفقهاء والقراء والمحدثين والقضاة= ما ليس لحضارة أخرى في نقد ذاتها وأولي الرأي فيها.

(2)
شرحنا في المقال الأول هنا كيف تتعلق جماهير التيارات الإسلامية بقادتها ورؤوسها، وشرحنا خطورة أن ينطوي هذا التعلق على مبالغة في تقدير كفاءتهم وأدواتهم، وننتقل هنا إلى بيان أمر مؤسف: وهو أن هذه المبالغة في كثير من الأحيان تخفي فجوة عظيمة بين ما تظنه الجماهير في القائد من كفاءة، وبين حاله الحقيقي.

فالتعلق في واقع الأمر لم يقم على تقدير عقلاني للكفاءة فيمكننا تصور فجوة معقولة بين الواقع والوهم، وإنما الحقيقة أن التعلق ارتبط بأسباب عاطفية، مرجعها إلى أن بعض هؤلاء الرؤوس كانوا هم الذين تصدروا لوعظ الناس وتذكيرهم؛ وبالتالي هم الأصوات الأولى التي استمعها صاحبنا حينما انتقل إلى هداية ودّع فيها حالته الأولى التي كان فيها معرضًا عن طريق طاعة الله وحمل هم هذا الدين.

الصلة التي قامت بينه وبين هؤلاء الرؤوس الوعاظ تشبه إلى حد كبير صلة الأبوة، عاطفة تشبه عاطفة الشخص نحو مَن أطعمه وسقاه وكساه ورباه، ولا شك أن نشوء هذه العاطفة متفهم ومحترم كذلك، لكن كل عاطفة تنتج حزمة من المفاهيم تؤثر في حياة الإنسان= فإن الإنسان مأمور بعرض حزمة المفاهيم هذه على المعايير الصحيحة للتفكير المستقيم، سواء منها ما تعلق بالحس والعقل أو ما تعلق بنظام الشرع في صياغة العلاقة بين رؤوس الناس والأتباع.

الإعداد للوعظ أشبه ما يكون بالسراج، آلة عاطلة، قطعة من حديد الخردة لا قيمة لها ما لم يوضع فيها الزيت، وكذلك الواعظ إن لم يعد نفسه.

ولا شيء حذَّر منه الشرع في صياغته لهذه العلاقة قدر خطورة اتخاذ الناس رؤوسًا جهالًا؛ ولأجل ذلك اشتغل العلماء بالإنكار على طبقة القصاص والمذكرين إذا تجاوزوا حدود وظيفة التذكير بالمحكمات؛ لأن الناس يتعلقون بهم، وإذا تعلقوا بهم اتخذوهم رؤوسًا، والحال أن وظيفة الرأس كثيرة التكاليف عظيمة المؤنة، فكان اتخاذ هؤلاء رؤوسًا فتنةً للتابع والمتبوع وتزل به جماعات وتهلك به أمم.

إن العلم والفقه المؤهلان لأن يكون الرجل رأسًا دينيًا يتبعه جم غفير من الناس في جليل الأمور وعظيمها= يحتاجان إلى مؤونة عظيمة يجب السعي كدًا في تحصيلها وليست مما يهون طلبه أو يسهل جلبه، فإن كان لهذا الرأس وظيفة اجتماعية وليس مجرد متخصص متقن في فرع ما، بل صار أشبه بقادة الرأي يتبعه الناس في صياغة أدوارهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية= صارت المؤونة الواجب التزود بها أعظم بكثير؛ مع وجود ملكات وقدرات ومواهب يجب توفرها في الشخص نفسه أيضًا، وتصدي الوعاظ لهذه المناصب هو الجناية العظمى التي ننكرها هنا.

إن الأمر يشبه السراج، آلة عاطلة، قطعة من حديد الخردة لا قيمة لها ما لم يوضع فيها الزيت، وبقدر ما يكون فيها من الزيت، وبقدر جودة الشريط القابل للزيت أيضًا= تكون قوة الإسراج وصلاحيته لتغطية مساحة واسعة ومدها بالنور.

إن ما نراه من خلل في المهام والوظائف التي تصدى لها قادة التيارات الإسلامية، يرجع لأسباب شتى تجتمع وتتفرق، لكن من أعظمها هو نقص الزيت، وضعف خامة شريط السراج الذي يراد غمسه في الزيت ليُسرج، سواء كنا نتكلم هنا عن الأدوات والمعارف الدينية، أو عن الأدوات والمعارف الثقافية والسياسية والاجتماعية.

وفي مجال الدين وعلمائه= الواقع أن محنة السنوات الماضية ليست محنة فشل مؤهلين بقدر ما هي محنة تصدر من لا أهلية له؛ جمع من الوعاظ لا فقه لهم، مع جمع من المتخصصين التقنيين في بعض العلوم، أولئك هم من تصدوا للرئاسة الدينية غالبًا، في معظم التيارات الإسلامية، وهي الرئاسة التي تتحول في التيارات السلفية بالذات لرئاسة شاملة سوبرمانية، وتقابلها الرئاسة السوبرمانية الإخوانية المتكئة على تاريخ تنظيمي لنفر من التكنوقراط المؤسسين للجماعة في نهاية السبعينيات، مع أذرع دينية خادمة لمجابهة المزايدة السلفية ليس إلا.

إن ضعف التكوين المعرفي لمشاهير رموز الإسلاميين، راجع بالأساس إلى تصدرهم وهم شباب في مجتمعات فقيرة معرفيًا بالأساس، وفي ظرف تاريخي ليس فيه تسلسل اجتهاد علمي يتبعونه، مع انشغال كثير منهم بمهام الانتشار الدعوي التي تعيق عن مواصلة طريق التعلم، فالواحد منهم غالبًا يتصدر بزاد قليل ثم يظل ينفق منه بلا فرص لزيادة رأس المال، أو على أحسن تقدير يتصدر بعلم محقق في فرع معرفي واحد لمهام تحتاج إلى فقيه جامع الأدوات لا إلى متخصص من هذا النوع.

(3)
جناية الوعاظ والمتخصصين محدودي مجالي المعرفة والخبرة على التيارات الإسلامية= جناية عظيمة جدًّا، وهي أحد أهم أسباب المحنة العظيمة التي نمر بها، وهي المحنة التي أنتجت كوارثها اليوم انقسام جماهير التيارات الإسلامية إلى فريقين عظيمين:

الأول: فاقد الثقة في رؤوسه كلها، عاجز تمامًا عن إنتاج بديل بنفسه؛ لأنهم لم يؤهلوه لذلك، وهو الآن يعيش في حالة من الفوضى يجمع شذرات من الرأي، يسند بها عملًا مشتتًا، يزعم بذلك استغناءه عن القادة الذين أضلوه السبيل، والحال أنه انتقل لضلال آخر مختلف اللون لا غير، وهذا إن نجا من الأزمات الوجودية ولم يحرق كل قنوات الاتصال بهذا التيار.

الثاني: حزب الكنبة الإسلامي، يعيش حالة من الصلة الأبوية الفاقدة لأبسط أسس التفكير الناقد، يمتص بانتظام مخدرات الدروشة التي يتقلب فيها الميت بين يدي مغسله لا روح فيه، أوهام التبعية تُخيل له أنه ينعم بالضوء والحال أنه محاصر في الظلمة يتوهم ذبالة الفتيل في طرف الغرفة القصي قمرًا منيرًا.

حالة تقطع الأمل معها في إمكان تطور هذا التيار وإمكان تخلصه من أخطاء تجربة الجيل الماضي، وكلما رأيتَ ردود أفعالهم على الممارسات الكارثية التي يمعن فيها قادتهم= أيقنتَ أن انتقال هذا الفريق لمساحة الفعل المؤثر حلمٌ يستعصي على التحقق.

لكل صاحب فضل فضله، شريطة ألا يتحول فضله إلى حجاب عن نقده أو عن تجاوزه إلى ما هو أحسن مما ينفع الدين والمسلمين

إن الذي أحمل على عاتقي بلاغه لك هنا: أن أكثر من تُعظمهم، وتنفر نفسك من نقدهم، لم يكونوا يومًا مؤهلين لما وُسدوا له، أو وسدوا أنفسهم له، وغاية أمرهم أن يعظوا الناس بمحكمات الوحي، فلم يقنعوا بهذا بل أدخلوا على المحكمات ما لم يحسنوا فقهه فأضروا الدعوة وعزلوك عن مجتمعك، ثم لم يقنعوا بهذا حتى نصبوا أنفسهم موضع القائد في أمر العامة فكانوا من أسباب الخيبة ودعائم المحنة التي نعيشها اليوم، وإن أنكرتَ قولي فما عليك إلا أن ترفع قليلا مستوى وعيك ومعارفك ثم تتبع أثر خيبات آرائهم ومواقفهم في السنوات الأخيرة شريطة أن تفتح عينك وتُحسن الوزن، وتكف عن اعتبار كل هذا الكم من السواد مجرد أخطاء عابرة أو اجتهاد يُحتمل مثله.

واعلم أنك إن أردتَ أن تنتج تجربة مختلفة عن تجربة هذا الجيل= فإن أمامك عملًا كثيرًا، لا يمكن استحلابه بالأماني، ولا تعويضه بأن تنصب رؤوسًا أخرى تحسب أنهم بديل لأولئك؛ فإن الأمر أعسر من هذا كله.

سراج بزيت شحيح وفتيل ممزق، لا يمكن أن يجابه الظُلمة المحيطة بنا من كل جانب، وبقدر ما ينير لك هذا السراج من مساحة ضئيلة لا تخلو مما هو خير من ظلمة لا نور فيها= فهو يضلك من حيث يوهمك أو تظنه ضوءًا مكتملًا ليس معه ظلمة؛ فتخبط لا تحتاط لشح الضوء وتحسب أنك من المهتدين، ولو علمتَ ما أدلك عليه من شح ضوئه وخلله أمكنك أن تحتاط لفساده وأن ترتاب من كل مساحة ظلمة يدعي القدرة على إنارتها متشبعًا بالزور.

والوعي بآفة هذه السُرُج ليس غرضه أن تسب من أحسن إليك؛ فإن لكل صاحب فضل فضله، شريطة ألا يتحول فضله إلى حجاب عن نقده أو عن تجاوزه إلى ما هو أحسن مما ينفع الدين والمسلمين، إنما غاية هذا الوعي أن يمدك بما يرفعُ سقف همتك وعزمك بحيث تجعل ما تطمح إليه هو أن تزيد الزيت وتقوي الفتيل، بدلًا من أن تظن أنك تعيش في نور تام أو كافٍ، فيجعلك ظنُّك تطمح أقصى ما تطمح إلى أن تكون واحدًا من هؤلاء الذين يسرجون بلا زيت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.