شعار قسم مدونات

أخلاقيات تقنية

آبل
يظهر لنا فيلم ستيف جوبز (2015) صورة للشخصية التي غيرت عالم التقنية (أو تقنية العالم) مغايرة للهدوء واليقين والتفاني في الإنجاز التي توحيها لنا صورة جوبز المعتادة، جوبز هنا شخص عصبي وغير مبال بمن حوله، ومستهتر بعلاقاته العائلية والشخصية، ويوزع الإحساس بالاحتقار على من حوله، رغم عبقريته.

في المشاهد الأولى للفيلم قبل حفل إطلاق منتجات لآبل، تزوره صديقته مع ابنته منها طلبا للنفقة بعدما أنكر أن الفتاة ابنته للصحف، وقال بعدما وضع خوارزمية حسابية غريبة إن 24% من رجال أميركا يمكن أن يكونوا الوالد، بعدما أثبت فحص "دي إن إيه" أنها ابنته بنسبة 94.4%.

ثمة موجة نقد "أخلاقية" لعالم التقنية الحديث عبر حياة مؤسسيه، الشخصية منها والعملية

الابنة (ليزا) ذات السنوات الخمس تقول لمساعدته إن والدها سمى الكمبيوتر الجديد "ليزا" على اسمها، كان هذا أسطورتها الخاصة الطفولية وشعورها الجميل بحب الأب، ولكن جوبز يخترع توليفة كلمات ليقول إن ليزا اختصار لها، وإنه لم يسم الجهاز على اسمها، بل هي محض صدفة.
 

الكلمة الأكثر بلاغة يقولها له صديقه ومشرف فريق "أي فون2" قبل حفل إطلاق الآي ماك، الذي لاحق جوبز لسنوات ليطلب منه كلمة تقدير حرمه منها جوبز: "منتجاتك أفضل منك".

يؤكد لنا فيلم آخر عن صانع -أقل عبقرية وكفاءة لا شك- لواقعنا الافتراضي والتقني كما نعيشه اليوم هذه المقولة، وأعني فيلم (The Social Network) (2010) للمخرج ديفيد فينشر، عن قصة مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ، الذي يظهره لنا محتالا صغيرا ومخادعا نصب الفخاخ لكل أصدقائه وشركائه في إنجازه.

ولعل أشهر محاولات إظهار البعد اللاأخلاقي لمؤسسات العالم الحديث، هو فيلم (The Wolf Of Wall Street) (2013) للمخرج مارتين سكورسيزي وبطولة ليوناردو ديكابريو والمأخوذ عن كتاب سيرة ذاتية لموضوع القصة جوردان بلفورت، الذي أظهر عالم البورصة الذي يختزل الاقتصاد الأميركي ونموذج النجاح المادي فيه، كعالم من الإباحية والشذوذ والمخدرات والفساد، ولعل هذا أهم أسباب حرمانه من جوائز الأوسكار، رغم تفوقه الفني الكبير كما هو معهود من سينما سكورسيزي.

ومن الجدير الإشارة إلى أن الجدل الأخلاقي حول التقنية هو أحد المواضيع الرائجة في سينما الخيال العلمي المرتبط بالتنبؤ التقني حول الذكاء الاصطناعي، وما يمكن للآلة أن تصنعه لو توسعت قدرات تحكمها في الإنسان، يمكن تتبع ذلك في أفلام مثل: Her (2013), Ex Machina (2015), transcendence (2014).

ثمة موجة نقد "أخلاقية" إذن لعالم التقنية الحديث عبر حياة مؤسسيه، الشخصية منها والعملية، حيث لا يقدح في أخلاقية هذه المؤسسات الكبرى -التي تشكل العالم وشخصية الإنسان الحديث- نقصٌ في أخلاق المؤسسة أو الأخلاقيات التطبيقية (حيث مجال الـ ethics) بقدر ما يبدو نقصا في أخلاق القيمة بعامة (morals).

وما يعاني منه حقل التقنية، بالاستقلال عن معيارية قيمية خارج المجال (دينية خاصة)، ومحاولة توليد أخلاقيات ضمن المؤسسة تستمد شرعيتها منها، هو من الظواهر المرتبطة بالمؤسسات الحديثة، وما تؤسسه الدولة أو ما يؤسس الدولة، والذي يرتبط "بالتمايز البنيوي" بين المجالات والمؤسسات كشرط للدخول في الحداثة، وبنقاش وجود الدين في الفضاء العام، فأصبح وجود قيم مطلقة ومرجعية محل نظر، وبوابة لإبداع مصادر أخرى للقيمة وأخلاق العمل.

الحس الأخلاقي ومرجعية الدين لا تزال حاضرة لدى المجتمع ومؤثرة في فرض وسحب شرعية الأشخاص والمؤسسات

ولكن الأمر هنا ليس على إطلاقه طبعاً، وقد ظهر لنا مع صعود اليمين المحافظ، أو مع الفضائح الأخلاقية (ذات الطابع المالي أو الجنسي) التي تلاحق رموز المجتمع الغربي من سياسيين ورجال أعمال، أن الحس الأخلاقي ومرجعية الدين لا تزال حاضرة لدى المجتمع ومؤثرة في فرض وسحب شرعية الأشخاص والمؤسسات، عدا -طبعا- أن القيم الدستورية المؤسسة في أميركا ومعظم الدول الأوروبية تتوسل بمرجعية إلهية لإثبات حقوق الإنسان وقيم المواطنة، بالإضافة إلى أن هذه السينما التي تقدم نقدا أخلاقيا لنماذج من العالم الحديث هي جزء من هذا العالم أيضاً، كما نحن أيضاً.

وبالطبع لا تنبغي قراءة هذا الجدل الأخلاقي داخل الاستقطاب المكرس والمقولات الرائجة (بروباغندا التعميم والتعمية) بشأن نقص الأخلاق في الغرب والحل الأخلاقي عندنا في مقابل نقص العلم عندنا والحل العلمي في الغرب، إننا كعرب ومسلمين جزء من هذا العالم، بحداثته وعولمته وتقنيته واقتصاده ومؤسساته، يختلف بالتأكيد طبيعة حضور هذا "العالم الحديث" ومستواه بيننا كما أنه أيضا ليس مطلقا بالنسبة لكل ما يُدرج تحت اسم "غربي".

ولو فحصنا أكثر الحركات نقداً ومعاداة للنظام الحديث، سواء نظمه السياسية أو الاقتصادية، وأعني الحركات الجهادية المعولمة، لوجدنا أنها تدور ضمن هذا النظام، ولا تحيا إلا على تقنياته وأسلحته واقتصادياته، ولا يتاح لها النشاط إلا بأدواته نفسها.

وهذا ما دفع من جديد لموجة من مراجعة المقاربات الثقافوية للإرهاب، والتي راجت خلال العقدين السابقين على أيدي منظري المحافظين الجدد، حيث يتم ربط الإرهاب بالإسلام كدين، حتى أن بعض الباحثين فكّر بعلاقة الفرانكوفونية كثقافة بتوليد الإرهاب، وصعدت مع تفجيرات أوروبا الأخيرة وارتفاع نسب المتطوعين ضمن تنظيم داعش من المواطنين الأوروبيين (والفرنسيين خاصة)، المقاربات المرتبطة بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات الأوروبية نفسها الحافلة باللاجئين ومشاكل الاندماج والتمييز… إلخ.

إن بحث ستيف جوبز المضني عن نظام مغلق لا يحتاج أي أداة أو مساعدة من خارجه (end to end system)، وإن كان تفوقا تقنيا باهرا بالنسبة لمنتجات آبل، فإنه بدرجة من المجازية والواقعية يعكس حال المنظومات الأيديولوجية المغلقة، التي إن استقلت عن مرجعيات قيمية من خارجها، يصبح كل شيء مباحا، وهو إشكال حديث يمتد من شركات التقنية إلى مؤسسات الاقتصاد وعوالم السياسة إلى أيديولوجيات وتنظيمات الجهاد والعنف الثوري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.