شعار قسم مدونات

في المسألة اللوثرية في الإسلام: أو: عدنان إبراهيم (4)

blogs - quran

عوامل حياد المجتمع العلمي الإسلامي

في الجزء السابق من هذه الورقة؛ تعرضنا للسؤال المثار من قبل كثير من المتابعين للظاهرة/ الشخص التي نبحث فيها، متأرجحين بين التنظير والتطبيق، وهي ظاهرة: تحيز المجتمع العلمي، والاحتمال الحاضر باستمرار لأن يكون ذلك المجتمع العلمي قد أخذ موقفًا إقصائيًّا من ذلك الشخص، بناء على أهواء متعمدة، أو تصورات ناجمة عن لا وعي جمعي.

 

شرحنا تأطير الخلاف في المجتمع العلمي وأنواعه ومعياره، ثم وصفنا حالة الموضوعية التي لا ولن تنفي وجود حالات تحيز، وكيف أن تلك الحالات لا يمكن موضوعيًّا أن تستوعب المجتمع العلمي بحيث ترفع عن مجموع أحكامه صفة النزاهة العلمية. وصفنا هذا، ونصل في هذا الجزء من سلسلتنا إلى التنظير لهذا المعادل من الموضوعية والنزاهة، التي تضمن لنا سلامة الاحتكام للمجتمع العلمي، ولو ضد خصومه. فإننا سبق وقد بينّا أن المجتمع العلمي حصرًا هو المخول لإنتاج المقولات العلمية، ولتقويمها، في الجزء الثاني من هذه السلسلة. وفي الجزء التالي على ذلك الجزء من هذه السلسلة سنتعرض بالبيان للإجراءات الإصلاحية التي يمكن اتخاذها، ومن داخل المجتمع العلمي نفسه؛ لمواجهة حالات التحيز الخاصة التي يمكن أن تمارس تجاه صوت مخالف في المجتمع العلمي، بحيث تكتمل بذلك نظريتنا حول موضوعية المجتمع العلمي الإسلامي، في شقيها: النظري البنائي في حال السلامة، والتطبيقي التقويمي في حال الاعتلال.

 

(1)

لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها

من جهة التنظير لما تقدم ذكره في الجزء السابق حول ظاهرة التحيز الواقعة في المجتمع العلمي الخاص وعلاقته غير المناقضة للموضوعية والنزاهة العامة: فنحن وإن لم نغفل عامل التدين والعدالة التي تنفي احتمال التواطؤ التام على التحيز غير العلمي تجاه قول أو قائل، وذلك أن علماءنا الكبار الذين لهم قدم صدق في المسلمين وأتباع واحترام: هم عدول ديِّنون، ولو وقع من أحدهم أو بعضهم شبهة التحيز الإنساني؛ فإن اتفاقهم على ذلك ليس بمتصور. نحن لا نغفل ذلك لأنه استدلال علمي إنساني صحيح عندنا. ومع ذلك فنحن – وللطبيعة الجدلية للموضوع – نعوِّل أكثر على الدليل التاريخي الواقعي في بيان عدم إمكان حصول اتفاق على حكم ديني لأسباب غير موضوعية بما يمثل تواطؤا يغيّب النزاهة العلمية.

 

وذلك أنه: لا توجد مصلحة للمجتمع العلمي أن يتواطأ جميعًا، وباستمرار؛ على دفع قول أو قائل دون أسباب موضوعية. ويوضح معنى ذلك أن طبيعة المجتمع العلمي الأول المؤسس للعلوم الإسلامية كانت عصية على التواطؤ واقعيًّا؛ وذلك أنه قد نشأ واستقر واكتمل بناؤه تقريبًا في القرون الثلاثة الأولى قبل أن تتشكل العوامل المؤثرة تأثيرًا خارجيًّا على حياد المجتمع العلمي، كالعامل السلطوي الإسنادي، والمزايا الاقتصادية، بل وطبيعة تكون التقليد المذهبي الصارم ومؤسساته المدرسية والفتووية والقضائية، ونحو ذلك من مؤثرات. لقد مورس في هذه القرون اجتهاد حر خصب، من اتجاهات شتى متداخلة مائجة، من أهل الرأي، وأهل الحديث، والمتزهدة، والمتوسعة، وذوي الميول السياسية والفكرية بل والنفسية المختلفة، مع تباين داخلي كبير في أطياف تلك الاتجاهات نفسها، فضْلًا عن اختلاف الأمصار والظروف التعليمية والسياسية والحضارية، بحيث يقطع الباحث المنصف بتعذر وقوع التواطؤ العلمي موضوعيًّا في ضوء تلك المعطيات.

 

ومن هنا نفهم ما قاله محدث كبير فقيه كإسحاق بن راهويه: «إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة»؛ فهذا هو المقصود من معناه، لا أن كلام الثلاثة الأئمة المذكورين إذا اتفقوا هو حجة، وذلك لأنهم ليسوا مجرد أشخاص بقدر ما هم محصلة علوم الأمصار، العراق، والمدينة، والشام، كل مصر بما له من سمات وخصائص علمية؛ فهذا قائم على مبنى استحالة التواطؤ الواقعي بين تلك الأمصار مع اختلاف كثير من مبانيها الاجتهادية، إلا بناءً على قوة موضوعية لهذا الاتفاق. وهذا كله مع عدم التسليم أن تلك قاعدة مطلقة، لأن كل واحد من هؤلاء الأئمة وإن كان بارزًا في مِصره ممثِّلا لفقهه، إلا أنه قد خولف من علماء مصره أيضا، فلا يعدو ذلك أن يكون قرينة لها قوتها، وليس حجة تامة.

 

ولذا قال الذهبي معلقا على تلك المقولة: «بل السنة ما سنه النبي – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدون من بعده . والإجماع: هو ما أجمعت عليه علماء الأمة قديما وحديثا، إجماعا ظنيا أو سكوتيا، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده؛ احتُمِل له. فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة؛ فلا يسمى مخالفًا للإجماع، ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق: أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبا، كما نقول اليوم: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها». فهذا يوضح ما نقرره من موضوعية المجتمع العلمي في جملته، وأن تصور تحيزه الكلي أمر غير علمي، ولا واقعي.

 

(2)

نعم من العلماء من كفّر بعض أنواع أهل البدع، لكنه لم يقع إجماع قط على تكفير جميع المبتدعة، وبعض من كفر بعض المبتدعة خالفه في ذلك غيره

باختصار: عامة الأقوال التي تحتملها الأفهام واللغة العربية من النصوص: موجودة في خلاف السلف الأولين، بما يعسر معه إيجاد أقوال جديدة برأسها في أمهات المسائل، فالأقوال تدور بين الإثبات والنفي والتقييد والإطلاق، وغالب ذلك قد قيل به في تلك الأعصار، اللهم إلا إن كانت أقوالًا مولَّدة من الأقوال الأولى، أو بالتلفيق الفقهي، أو أقوالًا في مسائل تفصيلية دقيقة ليس لتلك الطبقات كلام فيها، أو يتعذر معها القطع بأن السلف اتفقوا فيها على قول ما لكونه المذكور الوحيد عنهم.

 

ولذلك فإننا نلمس أثر هذا في كثرة الخلاف الواقع بين السلف في المسائل العلمية، بما تقلص كثيرًا بعد ذلك بسبب عامل أساس هو: التنظيم المذهبي، الذي عمل على تنميط الأقوال وقصر المعتمد منها على اختيارات محددة.

 

هذه الاستحالة الواقعية تجعل ما يتفق عليه المجتمع العلمي في هذه الطبقات الأولى؛ لا يكون عن تواطؤ، ولكن عن اتحاد موضوعي في النظر. وهذه نظرية المتواتر: التي تعني استحالة تواطؤ الجمع الكبير المفترقين على الإخبار عن شيء، وهو هنا التواتر المعنوي على نسبة حكم معيّن إلى الدين.

 

 (3)

والأكثر من ذلك أن ما قطع فيه المجتهدون بتخطئة القول المخالف، وأن الخلاف فيه ليس بسائغ؛لم يرتبوا عليه أمرين: انتفاء الأخوة الإيمانية بما يترتب عليها من حقوق، وانتفاء صفة العالِمية.

 

 فحتى الأقوال غير السائغة لم ترفع عن صاحبها العدالة، فله الحقوق الإيمانية المختلفة، فلا يكفر ولا يفسق، ويؤم ويشهد ونحو ذلك من حقوق وواجبات، وكذلك لا ترفع عنه تلك الأخطاء صفة العالمية، فكل عالم معرض للزلل والخطأ، كما يقول الذهبي: «لو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه، وبدعناه؛ لقلَّ من يسلم من الأئمة معنا»، كما أنه لا يستلزم العقوبة الدينية بل قد يكون مأجورًا أو معذورًا، ولا يستلزم العقوبة الدنيوية. فيقول الشافعي في نص نفيس: «المستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها: ممن لا ترد شهادته، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يدًا بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم وإن خالفنا الناس فيه، فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم، لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل». وهو معنى ما قاله يحيى بن سعيد: «ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه». وهذا دليل واضح على نزاهة تلك الأحكام العلمية، وأنها صادرة عن نظرة موضوعية، لا تقوم على التحيز والعصبية والحزبية والإقصائية.

 

(4)

والأكثر من ذلك أننا لو وسَّعْنا النظر إلى خارج الخلاف الفقهي إلى دائرة الخلاف العقَدي نفسه، فرغم اتفاق العلماء على ذمّ جنس البدع العقدية المخالفة للنصوص ولفهم الصحابة، واتفاقهم على ذم بعض تلك البدع، وخلافهم في بعضها، إلا أن هذا لم يستلزم عندهم تكفير أهل البدع.

 

تعامل النقّاد الإسلاميون مع الشعر، وكثير منه كانوا فقهاء وقضاة، حتى ابن تيمية نفسه أثنى على شعر ابن الفارض من الناحية الفنية مع إقراره أن مضامينه اتحادية إلحادية

نعم من العلماء من كفّر بعض أنواع أهل البدع، لكنه لم يقع إجماع قط على تكفير جميع المبتدعة، وبعض من كفر بعض المبتدعة خالفه في ذلك غيره. حتى إن ابن تيمية ينسب ذلك إلى جمهور السلف: «من كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ؛ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع: فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام».

 

 ولم ينزعوا عنهم حقوقهم الإيمانية مطلقًا. نعم قد خالف بعض العلماء في جواز إمامتهم وصحتها، وفي قبول شهادتهم، ولكن من العلماء من خالف في ذلك أيضًا. نحن نحتج بمجمل هذا على أن الموافق والمخالف قد صدر من اعتبارات موضوعية عنده، ولو كان نفس الابتداع مبدأ مطلقًا للتمييز؛ لاتفق كل العلماء على نفي تلك الحقوق عنهم.

 

 وكذلك لم ينزعوا عنهم الصفة العالِمية مادام أحدهم محرزًا لاشتراطاتها الموضوعية. فصحح كثير من العلماء اجتهاد المبتدع، بل واجتهاد الفاسق، وإن كان أكثرهم على عدم اعتبار فتواه – باعتبارها أمرًا مبنيّا على الثقة الاجتماعية -، وصحح كثير من العلماء أن أهل البدع معتبرون في الإجماع والخلاف. وقَبِل أكثر العلماء رواية المبتدع. نعم، هناك من خالف في ذلك كله، وهناك من شرطه بشروط، لكن لا تغفل دائمًا عن المنزع الاستدلالي الإجمالي الذي نسلكه، فنحن لا نستهدف رأيًا معينًا، ولكن نستهدف بيان النزعة الموضوعية للمجتمع العلمي الإسلامي الأول، بما يؤسس لموضوعيته.

 

 وهذا فضلًا عن الخلاف المَزْجِيّ، فعلى سبيل المثال فإن مالكًا يمنع الرواية عن أهل الأهواء، لكنه يصحح الصلاة خلفهم، وأحمد يبطل الصلاة خلفهم لكنه يجيز الرواية عنهم. فما ذكرناه من الخلاف السابق بتنوعه، وهذا التمازج الخلافي البيني؛ يدل على الانطلاق من وجهات نظر موضوعية، وليست ائتلافًا حزبيًّا يبتغي إقصاء فئة شاذة بالكلية. سواء على مستوى التواطؤ، أو الاتفاق العفوي اللاواعي.

 

بل إن بعض العلماء مع انتقاداته البنيوية لعلمٍ كامل – كعلم الكلام -، وليس لمجرد آحاد مسائل في علم ما؛ لم يمنع ذلك من وصف بعض أصحاب هذا العلم بإتقانه والحِذْق فيه وأنهم أوتوا فيه ذكاء، كما وصف ابن تيمية المتكلمين. ولم يمنع المذهب العقدي، بل ومضمون الفنون عمومًا من التقييم الفني بمعايير الفن الخاص بقطع النظر عن المضمون، كما تقدم، وكما تعامل النقّاد الإسلاميون مع الشعر، وكثير منه كانوا فقهاء وقضاة، حتى ابن تيمية نفسه أثنى على شعر ابن الفارض من الناحية الفنية مع إقراره أن مضامينه اتحادية إلحادية. جميع تلك المظاهر الواقعية والمسوغات النظرية هي التي تضمن لنا حياد المجتمع العلمي الأول. وهو المجتمع المعياري بصورة أساسية بالنسبة للعلوم الإسلامية.

 

(5)

ولكن: هل كان التطبيق دائمًا على ذلك المستوى من الموضوعية؟ لا إشكال أن التطبيق قد يقع فيه، وقد وقع بالفعل عبر التاريخ: أنواع من التحيز وعدم الموضوعية، ولهذا أمثلة معروفة عبر التاريخ، وذلك سواء في العصر الأول لتأسيس العلوم الإسلامية، أم ما بعده من عصور.

 

فقد ظهر هذا التحيز بصورة أوضح في العصور اللاحقة على العصر الأول، مع التنميط المذهبي، وأفول الاجتهاد، وانتشار الجمود، ومن هنا ينبغي أن نجيب على سؤالين آخرين:

كيف يمكن التعامل، ومن داخل المجتمع العلمي نفسه، مع وقوع التحيز والإقصاء المحتمل؟ ما الممارسات والإجراءات التي يمكن للعالم المخالف أن يقدمها في تلك الحالة؟

 

وفي ضوء وجود ظاهرة التحيز والإقصاء أحيانا، وفي ضوء الممارسات التي ينبغي أن يتوخاها المجتمع العلمي مع نفسه، لماذا لا يكون عدنان إبراهيم أحدَ تلك الأمثلة على وقوع التحيز في المجتمع العلمي، بما يجعلنا لا نطمئن للأحكام التي يصدرها هذا المجتمع العلمي عليه وعلى آرائه؟

هذان السؤالان هما موضوع الجزء الخامس من تلك الورقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.