شعار قسم مدونات

الدين في المجال العام (2)

blogs - pray

خُلاصة المقال السابق هي أن شرعنة الدين معرفياً بواسطة العقل والفكر، وسياسياً بواسطة الإرادة الإنسانية، تؤدي إلى دمجه في التاريخ البشري الأرضي، بحيث لا يعود حقيقة متعالية بمعزل عن الإنسان والعقل.

ففي التاريخ يُوجد الإنسان كحقيقة واقعية ملموسة، والفكر والإرادة الإنسانيين يُوجدا بعد الإنسان وليس قبله، وكل ما ينتمي إلى عالم الفكر والإرادة ينتمي إلى التاريخ، ولا يملك بالتالي أي صفة فوق-إنسانية.

واقعاً لا نزال نعيش في مجتمعات تُصادر حياة وحرية وكرامة الإنسان، لا أقول "لصالح الله"، وإنما باسمه.

فالإنسان -بالتعريف- لا يُمكنه امتلاك ما هو فوق-إنساني، ولا يُمكنه الإحاطة إلا بما يخضع للإحاطة بواسطة أدوات المعرفة الإنسانية. ومهما كان الدين في جوهره إيمانٌ بالغيب الذي يقع خارج نطاق المعرفة الإنسانية الموضوعية ، فإن حضوره في المجال العام لابُد أن يخضع لشروط الموضوعية الإنسانية، أي للعقل.

إذن، الإنسان هو العُنصر الأساسي في المجال العام، وليس الفكر. لأن الفكر منتوج إنساني في النهاية، حتى لو كان قائماً على الإيمان الديني، ولهذا فهو ليس فوق الإنسان. ومن هُنا تأتي قيمة الإنسان، لأنه الواقع الأكثر أصالة من جميع الأفكار التي يقوم هو نفسه بإنتاجها. فالإنسان أعلى وأكثر أصالة من العقل ومن الموضوعية نفسها. ومن هُنا لا مجال لرهن قيمة وحقوق هذا الإنسان للفكر الإنساني كشيء يُفرض على الإنسان من الخارج، كحقيقة أو كقدر على الإنسان أن يتقبله.

إنما الإنسان من خلال الحُرية يستطيع أن يتفاعل أصالة مع الوجود، يبحث عن الحقيقة، عن المعنى والقيمة النهائية للوُجود، أو عن الله، بنفسه. ويواجه مصيره بل يصنعه بنفسه، هذا هو مجال الحُرية والذاتية الإنسانية.

أما المجال العام فهو البُعد الخارجي لحياة الإنسان، هو المساحة المشتركة التي تصله بالآخرين وتجمعه بهم. هذا الاتصال والاجتماع يقوم – في الوضع الأمثل- على أساس الحُرية والعقل، وهذه هي "أعدل الأشياء قسمة بين البشر"، على الرغم من أنهم لا يستغلون لا العقل ولا الحُرية بنفس القوة.

بالطبع نحن لا نعيش الآن هذا الوضع (الافتراضي) الأمثل، حيثُ الحرية والعقل هُما أساس الاجتماع. فيما يتعلق بالدين هُناك وعي مستقر راسخ في مجتمعاتنا يأخُذ نفسه على أنه هو الدين، هو الحقيقة نفسها. بمعنى أن الدين هُنا ليس شيئاً اكتسب وجوده في التاريخ بالعقل ولا حتى بالإيمان، وإنما هو شيء سابق لكل ذلك.

وباختصار هو هذا الوعي نفسه. فالعقل في هذه الحالة لا يملك وجوداً ولا فاعلية مستقلة بمعزل عن الوعي/الدين، وبالتالي فإن مفاهيم مثل الحُجية والمعقولية والموضوعية والمشروعية بل حتى الإيمان نفسه، إما أنها خارج إمكانية التفكير أساساً، أو أنها تنتمي إلى هذا الوعي الراسخ كحقائق لا مجال لمناقشتها. لأن المُناقشة تفترض وُجود ملكة أو قُدرة إنسانية مستقلة عن الموضوعات والقضايا التي يتم نقاشها.

هذا الوعي، وبما أنه لا يفترض استقلالية العقل، فهو إذن مكتفٍ بذاته، هو مرجعية ذاته كما يقول الدكتور "عبدالوهاب المسيري" حين يصف الفكر المادي، فهذا الوعي أيضاً هو مثل الفكر المادي من هذا الجانب لأنه يفترض الاندماج الكامل مع الحقيقة النهائية للوجود، فهو أيضاً على نوع من "الحلوليّة" لأن الإنسان كذات مستقلة لم يعُد له وجود، لا كمقولة داخل هذا الوعي، ولا كأساس له بمعنى الإنسان كمُنتِج للوعي أو الفكر.

أما الدين كحقيقة نهائية فهو متجسد في هذا الوعي، وكذلك "الله" لا يعود إيماناً، وإنما واقعاً متجسداً في اللُّغة والنصوص بحيث يصبح مفهوماً تماماً ، فكل شيء مكتوب وواضح ونهائي . وجه الشبه مع المادية هو غياب الإنسان كذات مستقلة لها ذاتيتها وفاعليتها، وغياب وجود ثغرات ومسافات بين هذه الذات والحقيقة النهائية ( الدين أو المادة).

و هكذا ليس غريباً أن تكون هُناك نهايات متشابهة في التاريخ بين هذا الوعي والفكر المادي فيما يتعلق بقيمة ومكانة الإنسان وحقوقه. فإذا كانت المادية ترى في الإنسان مجرد مادة بلا قيمة ولا قداسة، فإن هذا الفكر كذلك يُمكن أن يهدر قيمة الإنسان لصالح مُثُل دينية عُليا مزعومة تجد تبريرها داخل هذا الوعي .

عندما أقول الإنسان أولاً فهذا نابع من واقعة أن العقل والفكر هُما من نشاط الإنسان وإنتاجه.

من دون أخذ الإنسان والحرية والعقل كأساس، فإن الباب يبقى مفتوحاً دائماً امام أنواع من هذه النتائج. ونحن واقعاً لا نزال نعيش في مجتمعات تُصادر حياة وحرية وكرامة الإنسان، لا أقول "لصالح الله"، وإنما باسمه. والسبب هو هذا الوعي الذي يماهي نفسه مع الدين بحيث لا يعود للدين وللعقل وجود إلا في هذا الوعي. ولهذا فعندما تقول كلمة "دين" في مجتمعاتنا فأنت تعني شيئاً محدداً معروفاً واضحاً كالشمس وصلباً كالجبال راسخاً مثلها، ولا وجود للعقل ولا للمعرفة إلا وفق التحديد الموجود في هذا "الدين".

لا يُمكننا تحريك هذا الوعي ولا نقده إلا على أساس العقل، لأن كل محاولة تتم من داخل المنطق الديني ستنتهي الى صراع حول من يمتلك الفهم الصحيح لما "يقصده الله"، وهي إشكالية معرفية كبيرة. فأنا لا يُمكنني الآن ممارسة أي نقد للفكر على أساس "القصد الإلهي" من خلال تفسيري للنصوص او من خلال خبرتي الذاتية، ولكن يمكنني فعل ذلك على أساس العقل والموضوعية، فعندما أقول الإنسان أولاً فهذا نابع من واقعة أن العقل والفكر هُما من نشاط الإنسان وإنتاجه. والحُرية هي تحقق لوجود الإنسان وللعقل والفكر أكثر من كونها شيئاً يُمنح أو يتم تبريره.

من هنا فإن أسبقية الإنسان والعقل في المجال العام، هي ليست فكرة يُراد تأسيسها أو الدفاع عنها بقدر ما أن ذلك هو الواقع، فهذا وصف للواقع بقدر ما هو نقد للوضع السائد في مجتمعنا حيث يطغى الفكر على الإنسان، وهو فكرٌ إنساني في النهاية، حتى لو تجسد في شكل مؤسسة وسُلطة دينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.