شعار قسم مدونات

في المسألة اللوثرية في الإسلام.. أو عدنان إبراهيم (2)

blogs - adnan ibrahim
المجتمع غير العلمي ومعضلة التقييم
في الجزء الأول من هذه الورقة قدَّمْنا مدخلًا توصيفيًّا إجماليًّا لخطاب عدنان إبراهيم الشرعي، قام على تدريج معياري: الواعظ/ العالم/ المحقق. وبناءً عليه قدَّرنا أنه في درجة الواعظ، وقدَّمْنا مسوغات إجمالية حول ذلك.

ولكن بقي أن تلك المسوغات الإجمالية المقدَّمة تخضع في تقييمها للمتخصصين. فكان من المنطقي أن نطرح سؤالًا حائرًا حول تلك القضية: وهو: كيف يمكن أن نحدد مدى صدق تلك الأحكام من المتخصصين؟ ثم كيف يمكن أن نضمن حِياد تلك الأحكام؟

نحن في محاولة الإجابة على هذا السؤال، أو ما نسميه هنا: معضلة التقييم؛ لا نناقش مشكلة المجتمع غير المتخصص مع عدنان فحسب، بل نناقش إشكالًا من إشكالات علم اجتماع المعرفة عمومًا، وهو سمة المصداقية والاعتراف التي تمنح للمتخصص، ما حدود تدخل المجتمع غير العلمي فيها؟
وقبل الجواب على ذلك السؤال، نحن في حاجة إلى التأسيس لمعقولية قصْر الحكم العلمي على المتخصصين فيه. ومن ثَمَّ نبحث في بناء صدق تلك الأحكام، ثم الكلام على ضمان حياديتها.

الحكم على عالِمية أي شخص – كعدنان باعتباره موضوعنا -، أو مقولاته العلمية: يكون راجعًا لأهل الاختصاص، وللمجتمع العلميّ حصرًا، وليس للمجتمع العام غير المتخصص

(1)
ينبغي أن نقرر قاعدة بدهية أولًا، وهي: أن كلَّ حُكم علميّ فإنه يعتبَر فيه رأيُ المتخصصين في ذلك العلم. هذا أمرٌ عامٌّ في جميع العلوم النظرية والعمَلية. فلا عبرة بحكم المهندسين مثلًا على حِذْق طبيبٍ، ولا يقدر محامون على إجازة بحث فيزيائي. الأمر نفسه في العلوم النظرية، كالفلسفة والاجتماع والاقتصاد، ومنها العلوم الدينية.

وذلك لأن العقل يقتضي أن الحكم، سواء أكان إثباتًا أو نفيًا، لابد أن يكون نابعًا من معرفة بالمثبَت أو المنفيّ. وهذه المعرفة درجات شتى، فمن المعارف ما هو شائع واضح للكافة، ومنها ما هو خفي دقيق، ومنها ما هو بسيط، ومنها ما هو مركب، وكلما اتسع مدى العلم، وكثرت فيه المعارف الدقيقة، والمركبة؛ فهو أحوج إلى معرفة موازية تتيح لصاحبها الحكم في مجالها. هذه مقدمة بدهية.

ولكن هل هذا الأمر بتلك المثابة من الوضوح حين نمارسه في الواقع؟ بالتأكيد: لا. فإنه تقع التباسات كثيرة جرّاء توهم المجتمع غير العلمي أن بإمكانه تقييم منتج علمي. ثم يترتب على ذلك لبسٌ آخر في نفس أحكامه على المنتج العلمي، بالضرورة.

هذا الإشكال والتوهم يقع في مجاليْ العلوم: النظرية والعملية، ولكنه أكثر إشكالًا في العلوم النظرية. فمن جهة العلوم العمَلية، التي تمس واقع الناس ويمكنهم التعامل مع منتجاتها؛ فإن تلك المنتجات تظهر لها آثار عملية تجعل للمجتمع غير العِلمي مدخلًا في الحكم العِلمي عليها. الحكم على مهارة حلاق الصحة في الطب تبعًا لإنجازاته في إجراء الختان، مثلًا. جهاز الكفتة الطبي الشهير – في مصر – والمياه التي ستكذب الغطاس، مثالًا آخر.

ولكن مهما حقق ذلك المنجز العمَلي؛ فإن الحكم غير المتخصص عليه سيبقى مجملًا وبرجماتيًّا، لا يمكنه أن يجادل بشأن الفنيات المتعلقة به لأنها خارج دائرة اطلاعه بالكلية، فضلًا عن أن تلك المنجزات العمَلية للعلوم الزائفة تكون محدودة الانتشار في الغالب، ثم تظهر سلبياتها بوضوح، لا يسمح بتمدد الأحكام غير الاختصاصية تجاهها.

ولكن هناك إشكال أوسع يقع في ذلك الصدد فيما يتعلق بالعلوم النظرية، حيث إنها تتسم من جهة موضوعها، في أكثرها، بالسيولة والنسبية. ويمكن تقديم خطاب إقناعي زائف حولها، خطاب يكون خطابيًّا أو جدليًّا لا برهانيّا مؤسسًا على قواعد علمية صحيحة. فضلا عن أنَّ إتاحة تلك العلوم وسهولة الاطلاع نسبيًّا عليها – في مستويات معينة منها على الأقل – يغذّي هذه السهولة والنسبية في إصدار الأحكام عليها بخلاف العلوم البحتة.

بالإضافة إلى أنها لا تتمتع، في الغالب، بآثار مادية، تمكن من الحكم عليها. وما له تعلق منها بالحياة العامة قد تستعمل آثاره السلبية أو الإيجابية بصورة سطحية غير علمية تكتفي بالربط الظاهري بين المقولات الفكرية والآثار العملية، دون تدقيق في علاقة السببية، وبتبسيط مخلّ لا يراعي التركيب الذي يوجد في الواقع، فيستعمل هذا للحكم على المنتج العلمي بقطع النظر عن مراعاة المنهج العلمي المتبع في إنتاجه.

آثار مثل العنف أو الاستبداد أو الجمود قد تلحق بمنتجات علمية، ليس بينها وبين تلك الآثار علاقة حتمية، بالضبط كما تلحق القنبلة النووية بالتكنولوجيا النووية كعلاقة حتمية تنتج حكمًا قيميًّا على التكنولوجيا نفسها.

ويغدو ذلك أكثر وضوحًا فيما يتعلق بالعلوم الدينية، فإن لها علاقة مباشرة بالدين، وهو أمر يمارسه أكثر الناس بالضرورة، فهو مماس لحياتهم باستمرار، بما يكوّن عند الناس خبرات، تتصلب غالبًا في صورة معرفة.

وكما نرى، فإن تلك الإشكالات هي عقبات لا تتيح إنتاج أحكامٍ علميّة صحيحة، تقدر على تقويم المنهج العلمي المتبع لإنتاج المقولات العلمية، ومن ثَمَّ الحكم على ذلك المنتج وجدواه النظرية والعملية؛ لأنها ببساطة تفتقر إلى الأسس المعرفية المنضبطة، والأدوات الصالحة لإجراء ذلك التقييم. فهذه الإشكالات، رغم وقوع الالتباس الكثير بها، هي مصَحِّحٌ أساسٌ لاختصاص الحكم العلمي بأصحاب العلم.

إذن الأصل أن الحكم على عالِمية أي شخص – كعدنان باعتباره موضوعنا -، أو مقولاته العلمية: يكون راجعًا لأهل الاختصاص، وللمجتمع العلميّ حصرًا، وليس للمجتمع العام غير المتخصص. ولا ينبغي أن نجادل في أن عامة مؤيدي ومحبي عدنان إبراهيم هم من المجتمع العام غير ذوي الاختصاص.

(2)
إذا قرَّرنا ما سبق، فإننا نصل إلى الخطوة اللاحقة عليه، وهي الجواب على سؤال: كيف نَعرِف أن إنسانًا ما عالمٌ، فما فوق؟ والجواب أننا نعلم ذلك عن طريق حكم المتخصصين، وفق ما سبق من بيانٍ.
ويتبين من ذلك أن هناك فرقًا بين رتبتين في التقييم:

رتبة معرفة العالم دون واسطة، وهذه تكون للعلماء المتخصصين، الذين يقدرون بما عندهم من الأدوات وممارسة العلم أن يميزوا بين من يتكلم في العلم بطرائقه المعتبرة، من الجاهل الذي يخبط خبط عشواء، من الوسًط في العلم، من كثير الخطأ، وغير ذلك من رتب.

ورتبة معرفة المجتمع غير العلمي للعالم، مع افتقاده لتلك الأدوات. فإن ذلك يكون من خلال الواسطة التي هي حكم العلماء المتخصصين.

ومما يتعلق بهذا الشأن أن نقف على سبل تحصيل العلم، والتي بها يكون الإنسان عالمًا مؤهلًا للكلام في العلم من جهة، ولتقييم المقولات العلمية من جهة أخرى.

كلام الفقهاء وأبحاثهم، التي ليست هي الوحي المطابق، ولا المجمع على أنها هي دين الله إجماعًا قديمًا صحيًحا؛ هي دين بالاعتبار العام الإنساني الاجتهادي القابل للتجويد والنقد والبناء

فمن المقرر في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لغير المتأهِّل أن يخوض فيها. وأنه يجب حماية العلوم من دخول غير أهلها فيها. وقد ورد في الوحي ذم الجهل، والخوض في الدين بالجهل، والتشبع بما لم يُعطَه الإنسان من العلم، كما ورد فضل العلم والثناء على طلبه وأهله، بما لا نحتاج للتطويل به هنا.

والسبيل التي يتوصّل بها الإنسان إلى ذلك العلم هي طرائق طلب العلم الصحيحة المتدرجة، التي تتشكل إجمالًا من الاطلاع على الوحي وعلومه المنقولة والمستنبطة، من خلال ما ورد عن فقه الصحابة فمن بعدهم من العلماء، المتفق عليه بين الجميع، والمختلف فيه الذي هو موضع أخذ ورد وجدل، ثم ممارسة ذلك عمليًّا بالمشاركة في العملية العلمية بالدرْس والإفتاء والقضاء والتأليف ونحو ذلك من الممارسات العلمية المختلفة. والإجراءات السابقة إذا جردناها من الخصوصية الدينية وأسمائها؛ هي طرائق مصلحية معقولة مستعملة في تعلم وتعليم جميع العلوم قديمًا وحديثًا.

ويحصُل مَنْ طلبَ العلمَ وبلغ فيه مبلغًا معتبرًا على الاعتراف بأهليته من خلال طريقين: إما عن طريق شهادة العلماء والمتخصصين له بالعلم، وهي الطريقة الذائعة منذ القديم إلى الحديث، في صور مختلفة، أشهرها صورة الإجازة بالتدريس أو الفتوى، وقد كان هذا يتمّ في القديم عن طريق كبار المشايخ والعلماء، وقد أخذت في العصر الحديث صورة الشهادات الدراسية.

أو عن طريق المنتج العلمي الذي يتقبله المجتمع العلمي. ويتقبله لا تعني أنه يوافقه بالضرورة، أو حتى يقر جميع نتائجه أو أغلبها، وإنما المقصود أن يتقبله من الناحية الإجرائية على الأقل، بمعنى أن ذلك المنتج قد سُلك فيه الطريقُ العلمي المقبول.

(3)
ولكن ما سبق يفرض سؤالًا مطروحًا على الساحة الثقافية: هل هذا كهنوت؟ هل هذه صورة مصغرة من النموذج الكنسي في المسيحية – وهذا يتقاطع مع مفهوم اللوثرية المبتغاة كما هو واضح -؟ وهل يراد بذلك احتكار الكلام في الدين على طائفة معينة من الناس وإقصاء أي رأي مخالف لها؟

جوابًا على ذلك أقول: ليس في الإسلام كهنوت. هناك فرقٌ واضح بين الكهنوت والتخصص العلمي، فإن التخصص العلمي بمعنى أنه لا يجوز لغير العالم بشيء أن يتكلم فيه؛ هو أمر بدهي عقلي مصلحي لا يجوز أن يختلف فيه العقلاء.

لا خوف أن يتحول المجتمع العلمي إلى كهنوت غير محايد، يقصي ويتيح بحسب أهوائه الشخصية. فالفقه – والمراد به هنا عموم العلم – محميّ لأن مصادره متاحة للمعرفة بالنسبة للجميع. فمن حيث الإتاحة لا كهنوت، فليس شيء من دين محمد هو سرًّا لا يعلمه الإنسان إلا بصورة غامضة سرية أو بتلقي إلهي مباشر أو وسيط، ولكن المطلوب من الجاهل أن يتعلم العلم بطرقه المعروفة كي يكون من أهل الاختصاص. أما الكهنوت فهو على خلاف ذلك تمامًا.

مقاربة التخصص في الدين – كعلمٍ – بالإكليروس المسيحي الكهنوتي، هي مقاربة مضلِّلة تمامًا تستهدف كسب مساحة اجتماعية بهذا الخطاب العاطفي غير العقلاني. ف‍الكهنوت المسيحي والكهنوت في الأديان الكهنوتية عمومًا – هو احتكار السلطة الدينية للطريق الديني إلى الله، فأسرار الكنيسة السبعة التي أهمها سر العماد – وسر مسحة الميرون في الكنيسة القبطية – الذي يكون به الإنسان مسيحيًّا ولا يكون مسيحيًّا إلا به، وكذا سر الاعتراف الذي لا غفران إلا به، وسر الحرمان، الذي يدخل النار، وحتى سر الزواج = كل تلك الأسرار هي حكْرٌ على مؤسسة دينية لا يمكن أن يمارسها أي مسيحي ليس بكاهن، وليس له سبيل لمعرفتها أصلًا.

أعظم أساتذة اللاهوت الطقسي في المعهد القبطي مثلًا قد يعلم تركيبة الميرون أو إجراءات الزواج لكنه لا يمكنه إجراءه إلا بحلول النعمة بتغطيس رهبنة ثان غير تغطيس العماد الأول، وبترسيم من البابا، وبحلول سر خاص عليه.

ومن الواضح أن شيئا كهذا ليس في النظام الإسلامي، فكل أحد يمكنه أن يسلم أو يكفر أو يصلي أو يتزوج بالتزام الشرع بصورة مباشرة وحرة. وفي الإسلام: كل أحد بإمكانه أن يكون عالمًا بطريقة واضحة، بخلاف فكرة الكهنوت والوساطة الإلهية. فالكهنوت يحتكر سلطة الممارسة وسلطة المعرفة بصورة حصرية سرية غامضة.

(4)
ولكن العلم الديني ليس بهذه الصعوبة، ليس هو معادلات رياضية أو فيزيائية أو رموز كيماوية أو تقنيات معقدة تحتاج إلى أهل اختصاص دقيق يختصون بالكلام فيه، فالدين لنا جميعًا، ويمكننا الاطلاع عليه وإجراء عمليات جمع ومقارنة تمكننا من الاجتهاد فيه ونقد قراءات العلماء المتقدمين. هذا سؤال آخر شائع في خطاب كثير من المثقفين، ومنهم شريحة واسعة من جمهور عدنان إبراهيم.

هذا الكلام غير صحيح. والمقاربة بين الدين وسائر العلوم لا يجب أن تحاكم بمقاربته بالعلوم التجريبية التي تخضع للمنطق الرياضي أو الرمزي أو حتى ميثودلوجي لاكاتوش كي نخرج بنتيجة مضللة مفادها: بما أن العلوم الدينية ليست كذلك؛ فإنه يحق لكل أحد دون دراسة وتعمق أن يتكلم فيها !فحتى العلوم الإنسانية، التي ليست رموزًا ولا جداول عناصر، لا يجوز التكلم فيها من الجهة التخصصية إلا بدراسة عميقة وصحيحة وطويلة لها، كتاريخ علوم، وكأسس نظرية، وكمدونات أساسية.

ونحن لا نقول إن المصنفات الدينية، هي الدين بمعنى الوحي، بل هي دين بالمعنى الإنساني، فجملة كلام الفقهاء وأبحاثهم، التي ليست هي الوحي المطابق، ولا المجمع على أنها هي دين الله إجماعًا قديمًا صحيًحا = هي دين بالاعتبار العام الإنساني الاجتهادي، القابل للتجويد والنقد والبناء، وهذا يقوله العلماء أنفسهم، ولابن تيمية نظريته المعروفة عن الوحي المنزل والمُأَوّل والمبدَّل، فغالب الفقه – بمعناه العام – المقبول السائغ في دائرة الأقوال العلمية هو من الدين المأول، ولا نقول إنه المنزل. ومع كونه كذلك فهذا يستلزم عدة معرفية، تاريخية ولغوية ونصوصية وفقهية للتعامل معه. وقد بينّا من قبل أن هذه المقدمة عقلية بدهية.

وأما الفكرة التي مفادها أن الدين لنا جميعًا، ومن ثمّ فلا حرج أن ننظر فيه ونجتهد، فإذا كان المقصود أن نطلب علمه كما نطلب سائر العلوم ونترقى فيه حتى نكون من أهله، فهذا خطاب معقول صحيح. ولكن المغالطة الكامنة في هذا الاعتراض أنها تريد من المثقف العادي غير المتأهل في العلوم الدينية أن يبحث فيها ويبدي آراءه وتصوراته حولها.

التدين بمعنى ممارسة الدين في الحياة هو خطاب عام لجميع الناس، بخلاف الدين بمعنى تقرير المقولات العلمية، فهذا علمٌ تامُّ واسع عريق قديم، هو حصرٌ على المتخصصين فيه

المغالطة أن هذا خلط بين الدين والتدين. هناك فرق بين الدين كممارسة، فهذا متاح لكل أحد، وهو مبني على الإخلاص لله والمتابعة للرسول – نعم يؤثر فيه العلم لكن أصله الإخلاص والمتابعة قدر الاستطاعة -، وبين الدين كعلم، فالدين الوحياني مجموعة من النصوص، نعم هي نصوص مقدسة، لكنها نصوص لها عامة خصائص النصوص، تنشأ حولها مجموعة مختلفة من العلوم التاريخية والموضوعية والدلالية، حول التحقق من الثبوت، وحول استنباط الدلالة، وطرق التأويل. فالدين وفق هذا التصور: علم كسائر العلوم، ينبغي أن يتوفر في المتكلم فيه الشروط والأدوات العلمية كسائر العلوم والتخصصات.

وقد يكون إنسان من أولياء الله – على مستوى التدين – ولا عبرة بكلامه في العلم، وقد يكون آخر فاسقًا وهو من المجتهدين صحيحي الاجتهاد، لأن المدار هنا على الكفاءة العلمية.

التدين بمعنى ممارسة الدين في الحياة هو خطاب عام لجميع الناس، بخلاف الدين بمعنى تقرير المقولات العلمية، فهذا علمٌ تامُّ واسع عريق قديم، هو حصرٌ على المتخصصين فيه، كجميع العلوم.

من يشنع على فكرة التخصص العلمي، البدهية، بوصفها كهنوتًا، أو يدعو غير المتخصصين للإدلاء بدلوهم في العلوم الإسلامية باعتبارهم مسلمين والعلم ليس حكرًا على أحد؛ فليس كلامه أكثر من خطاب يكرس للجهل. خطاب مضلل يخدع الناس ليستقوي بجهلهم لأنه لا يتحمل مؤونة أن يتعلم الناس.

خطاب لا ينبغي أن يتعامل معه تعاملٌ جديٌّ، مهما اتخذ من صيغ ثقافوية يزين بها ادعاءه الزائف. ونحن سنعرض لهذا في مقال قادم عقب الفراغ من هذه الورقة عن علاقة الدين بتفاصيل الحياة المختلفة.

ولكن: إذا سلّمنا أخيرًا بصحة اختصاص أهل العلم بالحكم التقييمي في العلم، وأن هذه الظاهرة هي ظاهرة معقولة وصحيحة وعامة في كل العلوم، ولا يمكن تخصيص الدين كعلمٍ منها، فنحن بإزاء سؤال آخر مهم: كيف نضمن حياد هذا المجتمع العلمي وصدقه الموضوعي في أحكامه العلمية وتقويماته للمختلفين معه، وأنه لن يتحيز ضد مخالفيه ويقصيهم؟ هذا هو موضوع الجزء الثالث من هذه الورقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.