شعار قسم مدونات

يوم خلعت أميركا الحجاب

BLOGS - AMERICA
إذا كنتَ تؤمنُ أنّه لا يمكن لمجتمعٍ أن يتغيّر جذريّا بين ليلة وضُحاها، فلعلّك بحاجة إلى أن تقرأ عن الولايات المتحدة في الستّينيّات.

يُمكِن توقُّعُ تغيّر اجتماعيّ جذريّ بالتزامن مع ثورة سياسيّة تُطيحُ بالنظام القائم، أو مع وقوع مجتمع تحت احتلال خارجيّ أو تحرّره منه، أو خروج دولة ما من التبعيّة لتشكيل سياسيّ ما، لكن أن يحدثُ هذا التغيّر الجذريّ من دون ثورة سياسية ولا سقوط نظام ولا وقوع بلد تحت الاحتلال، وأن يحدثَ هذا التغيّر بقدر محدود جدّا من العنف، وبوسائل التغيير الاجتماعي السلميّة، فتلك حالة تاريخية شديدة الفرادة، وهذا ما حصل في أمريكا في الستينيّات.

لستَ مُحتاجا لأن تكونَ خطيبا مفوَّها أو منظّرا بارعا أو ناشِطا مشهورا لكي تجعلَ من أيّ قضيّة متعلّقة بالمرأة شأنا جدليّا يُحرّك الجميع ويستفزّ الأقلام ويُثير الحفائظ.

تتعدّد الجوانب التي طالتها ثورة الستينيّات، وتشمل العلاقة بالدولة والنظام السياسيّ، والعلاقة بالأسرة ونظم القرابة، وكلّ ما يتّصل بالجنس والعلاقة بين الجنسين، وسائر ما يتعلّق بالمرأة ودورها وتصوّرها لنفسِها وتصوّر المجتمع لها، والنظرة إلى الملوّنين -السّود خصوصا- وحقوقهم وأدوارهم الاجتماعية والسياسيّة، والعلاقة بالبيئة والتغيّر المناخي، والموقف من كلّ ما يمكن اعتباره شكلا من "السلطة" حتى اكثر أشكالها أدبيّة ورمزيّة.

غير أنّ ما سنتناولُه هنا بالتحديد هو المرأة وما تغيّر بشأنِها في أمريكا الستينيّات، وهذا الاختيار ليس اعتباطيّا، بل هو متّصلٌ بقضيّة "المرأة" في سياقنا العربي الإسلامي، هذا الموضوع الشائك وبالغ التعقيد وشديد الجدليّة.

لستَ مُحتاجا لأن تكونَ خطيبا مفوَّها أو منظّرا بارعا أو ناشِطا مشهورا لكي تجعلَ من أيّ قضيّة متعلّقة بالمرأة شأنا جدليّا يُحرّك الجميع ويستفزّ الأقلام ويُثير الحفائظ. الموضوع جدليّ بطبعِه، وشديد الاستقطاب، وسواء أكان المتحدّث فيه رجلا أو امرأة، محافِظا او داعية تجديد أو حتى داعية انحلال، ومهما كان الموقف المُتبنّى، فالجدل مضمون، وسيل الموافقين والمعارضين عارم، والتعليقات صاخبة، والنّفوس متوتّرة.

في أمريكا الخمسينيّات، كانت الأسرة نظاما شديد الاحترام، وفي القطاع الأوسع من الشعب الأمريكيّ كانت قيم المحافظة الاجتماعية مركزيّة، ويشملُ ذلك قضايا المرأة. كان متوقَّعا بالفعل من كثير من النساء أن يكنّ عذراوات حتى الزواج، وألا يكون للمرأة أية تجارب جنسيّة قبل الزواج.

وباستثناء الأثر الذي أحدثته الحرب العالميّة الثانيّة – في أوروبا أكثر من أمريكا- من خروج النساء للعمل لتعويض غياب الرجال في الحرب، فقد كان الدور المتوقَّع للمرأة هو الأمومة ورعاية المنزل، وكان الرجل هو المكلَّف بتحصيل دخل الأسرة، وكانت الحشمة والعفّة ورفض التعرّي والابتذال قيما معتبَرة. كلّ هذا اهتزّ في الستّينيّات.

كان التحوّل جذريّا وصادما، حيثُ أصبح الحديثُ العموميّ عن الجنس موضوعا أكثر مقبوليّة، وراجت الدعوة إلى أن تعرف المرأة جسدَها فسيولوجيّا، وأن تفهم جانبَها من حكاية الجنس بدءا من وظائف جسمها البيولوجيّة إلى تفاعلها السيكولوجيّ مع الجنس، وبدأت تترسّخ فكرة مفادُها أنّ جنسانيّة المرأة كانت دائما مُهمَلة، وأنّ الجنسانيّة كانت تُعامَل دائما كموضوع ذكوري، وأنّ المرأة موضوع جنسي لا فاعلٌ جنسيّ، وأنها موضوع لجنسانيّة الرجل لا ممتلكة لجنسانيّتِها الخاصّة، وأنَها تُعامَل كمشتهاة ولا يُقبَلُ منها أن تكون مُشتهِية، وأنّ هذا كلّه يجب أن يتغيّر.

ولم يتوقّف الأمر عند المعرفة والوعي، بل تصاعدت الدعوات لتحويلِه إلى ممارسة، أي أنّ من حقّ المرأة أن تفهم جنسانيتَها وتعيشَها ممارسة عمليّة، حتى قبل الزواج إن أرادت، وهو ما انتشر بالفعل. لم يعد متوقَّعا من المرأة أن تكون عذراء ليلة الزفاف، ولم يعد مستهجَنا أن يكون لها تجارب جنسيّة متعددة قبل الزواج، وبدأ الحديث عن كون جنين المرأة جزءا من جسدِها وبالتّالي متعلّقا بإرادتِها، لا باعتباره متعلّقا بالرجل أو حتى بالأسرة.

وتزامنَ ذلك مع دعوات للمساواة في فرص العمل والأجور وفرص التعليم، وضرورة أن تقتحم المرأة سائر الاختصاصات العلميّة والمجالات المهنيّة، بل حتى ضرورة أن تقتحم المرأة سائر الرياضات وتُشارك في المحافل الرياضيّة. باختصار، كانت "المساواة" هي العنوان العريض الذي بدأ يقتحم سائر المجالات.

غير أنّ أمرا شديد الأهمّية حصل في تلك الفترة، وكان يقوى بالتزامن مع توسّع موجة الحقوق المتساوية، هو موجة المُناهَضة لحركة تحرير المرأة والحقوق المتساوِية، ولم تكن هذه الحركة مقصورة على رجال محافظين، بل كانت لها رموزها النسائيّة البارزة. هذا أمر يجب التوقّف عنده مليّا في سياقنا العربيّ المعاصر.

كانت المُناهِضات لموجة تحرير المرأة والحقوق المتساوية نساءً شعرنَ أنّ هذه الموجة تريد "تحريرهنّ" بالقوة. كان خطاب التحرير كثيرا ما يقعُ في عنف رمزيّ شديد تجاه النساء اللواتي يزعمُ السّعيَ لتحريرهنّ. كان خطاب التحرير يصفُ وضعَ المرأة القائم بأنّه "استغلال" أو "امتهان" أو حتى "عبوديّة".

بل لقد وصل هذا الخطاب إلى مفارقات مثيرة، فقبلَه كانت توصَف المرأة متعدّدة العلاقات الجنسية بأوصاف قلة الحياء والدّعارة لأنها لا تقصرُ نشاطَها الجنسي على العلاقة الزوجيّة، وجاء خطاب التحرير ليصف المرأة المحافِظة بالوصف نفسه، أي أنّها "مومس" لأنّها تقبلُ أن يكون دورُها هو رعاية المنزل والإنجاب والأمومة في مقابل أن يتكفّل زوجها بالدّخل، وبالتالي فهي -حسب خطاب التحرير- مومس تُقايِض الجنسَ بالمال! فضلا عن تهم التخلّف والرجعيّة وغيرِها.

هذا الخطاب استفزّ كثيرا من النساء اللواتي كنّ يشعرنَ بالرّضا عن حياتهنّ كما كانت، وانتشرت عبارة "I like the way I am" أي "تعجبُني حياتي كما هي"، وكان من مرتكزات خطاب النساء المحافِظات أنّ المرأة الأمريكيّة تحظى بالفعل بكثير من الميزات التي سيحرمُها منها الوضع الذي تُنادي به موجة التحرير.

كان لدى المُحافِظات شعورٌ بأنّ دعوة التحرير تنطوي هي نفسُها على استبداد بالمرأة ونظرة دونيّة تجاهَها وعدم احترام لخياراتِها.

لم يكن في مقدور حركة التحرير أن تتصوّر أنّ المرأة يمكن أن تختار وضعَ حياة مُحافِظا لأنّه خيارُها وقرارُها الحرّ، بل كانت المرأة في نظر هذا الخطاب إما مُحافِظة مقهورة، وإمّا تقدُّميّة حُرّة، ولا إمكان لوجود مُحافِظة حرّة. كان يتنامى شعورٌ بأنّ حركة التحرير لا توسّع خيارات المرأة، بل تفرضُ عليها خيارا آخر، وكان لهذا مفاعيل شديدة الأهمّية والعمق.

كان من أهمّ آثار هذه الموجة المضادّة عدم المُصادَقة على مشروع قانون الحقوق المتساوية"
"The Equal Rights Bill" الذي طُرِح في السبعينيّات، وكان بمثابة استفتاء شعبيّ وقانونيّ على مفاعيل وآثار حركة حقوق المرأة. أثار القانون جدلا شديدا، وتعرّض لنقاشات حادة وتأييد متحمّس ومعارَضة متحفّزة، وفشل القانون.

لا يعني ذلك أنّ موجة تحرير المرأة قد توقّفت عندَه، فما تزال مفاعيل هذه الموجة على الحياة العامة، اجتماعيّا وسياسيّا واقتصاديّا، مؤثّرة ومتطوّرة، غيرَ أنّ ما يجب الالتفاتُ إليه هو أنّ هذه الموجة ساهمت بدورِها في إكساب التيّارات المُحافِظة، ومنها النساء المُحافِظات، أدواتٍ جديدة ودورا جديدا.

يُمكِن القول بثقة إنّ من نتائج موجة تحرير المرأة في الستينيّات دفعَ النساء المُحافِظات إلى الواجهة، وتحويلُ المُحافَظة النسويّة من عادات اجتماعيّة توصَف بالذكوريّة ويُدافعُ عنها الرّجال إلى حضورٍ سياسيّ وثقافيّ وإعلاميّ تضطلعُ به النساء المُحافِظات أنفسهنّ.

أن تكون "مارجريت تاتشر" هي الوجهَ التاريخيّ لعودة المحافِظين إلى الواجهة في الثمانينيّات ليس أمرا عابرا، وتمتلئ قاعاتُ الجامعات وأروقة المستشفيات وأعمدة الصّحف وشاشات التلفزة بنساء محافظات يُقدّمنَ خطابا مُحافِظا شديد القوّة والوضوح. من المؤكّد أنّ لحركة تحرير المرأة دورا مهمّا في أن تصبحَ هؤلاء النّساء ما هنّ عليه، لكنّ من المؤكّد أيضا أنّ مآلات تجربتهنّ تختلف تماما عمّا كانت تريده موجة تحرير المرأة.

المُحافَظة يمكنُ لها بالفعل أن تكونَ خِطابا نِسويّا، تتبنّاه نساء متمكّناتٌ من مصائرهنّ وواعيات بأنفسهنّ وحقوقهنّ.

أما الدرس المستفاد من التجربة، فهو أنّ قيمة أي حراك اجتماعيّ متعلّق بالمرأة تكمنُ في نبله الأخلاقيّ المتمثّل في تمكين النساء من التحرّر، وذلك بتوسيع خياراتِهنّ وإطلاق ممكناتِهن وزيادة مكاسبِهن الاجتماعيّة والثقافية والاقتصاديّة والسياسيّة، لا من خلال ترويج خطاب يستخدمُ الإهانة ويحتقرُ الخيارات المُخالِفة ولا يستطيعُ أن يرى الخيارات المُحافِظة باعتبارِها خياراتٍ حقيقيّة يُمكِن أن ترتضيَها النّساء عن قناعة.

أما الدّرسُ الآخر فهو أنّ التحوّلات الاجتماعية ليست خطّيّة، بل هي تُنتِج نقائضَها وتولِّدُ أضدادَها، ويمكنُ للخطابات الاجتماعية المتعارِضة أن تغذّيَ بعضَها، وأن تنتجَ ظواهرَ اجتماعيّةً مركّبة تجتمعُ فيها عناصرُ كانت متفرَّقة بحدّة بين الخطابات. وبالتَالي، فالمُحافَظة يمكنُ لها بالفعل أن تكونَ خِطابا نِسويّا، تتبنّاه نساء متمكّناتٌ من مصائرهنّ وواعيات بأنفسهنّ وحقوقهنّ.

تنتشرُ في فضائنا العربيّ مقارَبات سطحية لتحوّلات قضيّة المرأة، بعضُها يعتبرُ موجةً ما من خلع الحجاب مثلا تغيّرا حاسما ونهائيّا، مع أنّ هذا المتغيّر -على سخفِ الاعتمادِ عليه وحدَه- شهدَ موجات متعاكِسة في الاتجاهين في القرن الأخير، وعلى من يتسرّع ويعتبرُ تحولا اجتماعيّا ما أمرا ناجزا ونهائيّا أن يقرأ بحذر تجربة أمريكا في الستينيّات، يومَ خلعت أمريكا الحجاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.