شعار قسم مدونات

الأمير موْدُود بن التونتكِين

blogs- الحروب الصليبية

غالب الأمر أنّه متى ما سمعنا كلمة الحُروب الصّليبيّة فإن أوّل اسم سيقفزُ إلى الذهن مُباشرةً، الناصرَ "صلاح الدين الأيوبي"، وإذا ما حاولت جَهْدك مع ذاكرتك فإنَّ "عماد الدين زنكي"، سيكون الاسم الثاني. لكنّك غالباً لن تسمَع عن أمير المُوصل "الأمير النبيل".
 

المُوصل التي كانت تتبع الدَّولة "السلجُوقية"، بقيادة "مُحمد بن ملك شاه"، وهُــوَ القائد الفذ شرف الدَّولة "موْدُود بن التونتكِين"، من التُّركمان الأخيار، كان رجلاً فاضلاً عالماً مُجاهداً، قال فيه ابن الأثير: "وكان خيِّرًا، عادلاً، كثيرَ الخير" أميرٌ نبيلٌ ومجاهدٌ عظيمٌ، ساسَ رعيّتهُ بالعدلِ والإنصافِ، والتزمَ بتعاليم الدّين الإسلامي، مع أمر بالمعروفِ ونهيٍ عن المنكر، حتى شاع الخيرُ في كل مكان من أرجاء المُوصل، فأحبّته الرّعية، وامتلك بعدله القلوبَ والعُقول، ثم رسّخ في قلوب رعيتهِ حبّ الجهاد.
 

كان لأهل بغداد عُلُو كعب ووعي؛ نظراً لكثرة العلماء والفقهاء بينهم، فقد كانت الثورات بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء، -كما قيل- ولو صلُح علماء الأمّة اليوم لصلُح أمرُها.

"مودُود" هو أول شخصيَّة في تلك الحقبة، تجعل الجهاد في سبيل الله منهجاً واضحاً، وتجعل قِتال الصَّليبيين هدفاً لا يغيب عن الذهن، ولا يبعد عن الخاطرِ، ثُم إن الخطوة التالية لمودُود بعد تنظِيم الموصل من الدَّاخل، تُعبّر عن فقهٍ عميقٍ منه ومعرفةً لطريق النَّصر، وهي توحيدُ الجهود، وتجميع الشتات، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)، ومن ثَمَّ في مُراسلة باقي الأمَراء لتجميع الجيُوش تحت رايةٍ واحدة، ولهدفٍ واحدٍ وهو طرد الصليبيين من بلاد الإسلام.
 

هذه الفِكرة العظيمة كان ينقصُها أناس من طينَة مودُود، فهذِه الغايات النَّبيلة لم تكُن تشغل أمراءَ ذاك الزَّمن، ومن ثَمَّ لم تكن هُناك استجابة، بل كانت مسألة انضمام بعضهم له رغبة في نفعٍ، أو خوفاً من سُلطة "مودُود" أو سلطانه الأكبر، ومع ذلك فقد استطاع "مودُود" أن يكوِّن حلفًاً لا بأس به من الأمراء لَفَت أنظار المسلمين إلى مبدأ تجميع المشتّت.
 

الآن هناك حلف إسْلامِي منظم لأوَّل مرة سيُحارب الصليبيين يتكوَّن من:
– مودُود بن التونتكين أمير الموصل
– إيلغازي بن أرتق أمير ماردين
– سقمان القطبي وهو أمير تبريز
– طغتكين أمير دمشق
 

كانت وجهَةُ هذه الحملة واضِحة، وهي التَّوجه صوب "الرُّها"، والغرض تحرير هذه الإمارة الإسلامية من الاحتلال الصَّليبي، وتحرَّكت الجُيُوش من المُوصل في شهر إبريل سنة 1110م، وفي غضُون أيَّام وصلت الجيوش إلى حُصون مدينة "الرُّها"، وهي من أكثرالمُدن تحصينا، شعر "بلدوين" أمير "الرُّها" بالخطر، فأرسَل استغاثةً عاجلةً إلى ملك بيتِ المقدس، بينما استمرّ مودود مُحَاصِراً للمدينة لمدّة شهرين، وحاول أن ينفُذ للمدينة لكنّه لم يفلح.
 

وفي هذه الأثناء تجمَّعت الجيوش الصليبية بأعدادٍ مَهولة، وهُنا آثر مودُود أن ينسحب بجيشه؛ تمهيداً للانسحابِ أكثرَ وأكثر لاستدراج الجيش الصَّليبي، وانضمام جيوش "طغتكين" أميرُ دمشق لتزداد بذلك القوَّة الإسلاميَّة، مع بعض التحرّكات من بعض أمراء المُسلمين كلٌّ على ما يقربُه من الولايَات التي يحتلها الصليبيون، فقرّرت جيوش الصَّليبيين الرًّجوع دون القتال؛ فتقدَّم مودود بجيوشه، والصليبيون يتراجعون بسرعة، ومع ذلك استطاع مودُود أن يلحق بمؤخرَّة الجيش الصليبي، وتحقيق انتصار إسلامي سريع.

لكنَّ الموقعةَ لم تكن فاصِلة بالطبع؛ لأن معظم الجيوش الصَّليبية كانت قد عبرت نهر الفرات، أو دخلت حصون "الرها"، ومع ذلك فإنَّ الموقعة تركت عدة آثار إيجابية منها:
– وضعت الموقعة المسلمين على طريق الجهاد.
– الوحدة وعدم التنازع "جيش من دمشق مع جيش من العراق وبلاد فارس".
– كسبوا عددا من الغنائم والأسلحة تقوّى بها جيش مودود.
– السيطرة على بعض الحصون والقلاع والأراضي شرق الفرات، ولم يبق في شرق الفرات سوى مدينتي الرها وسروج، إلا أنهما صارتا معزولتين.
 

وهكذا تركت هذه الحملة انطباعاً إيجابيّاً مع أنَّها لم تكن فاصلة، وعاد مودُود إلى الموصل، بينما رجع كلُّ أميرٍ إلى إمارته. هُنا بدأ المسلمون يشعرون بأن الأمل ما زال موجوداً، وأنّ الواقع الأليم من الممكن أن يتغيّر، وشعرُوا بأنّ الجيوش المتعاونة مع مودود لا تكفي، فقام وفد من أعيان وتُجّار وعُلماء "حلب" وتوجّهوا إلى "بغداد"، بعد أن يَئِسوا من زعيم حلب، وهناك التقوْا مع الخليفة "المُستظهِر بالله" الذي وعدهم بالتأييد، فكان قلبيًّا لا فعليًّا، لكنَّ أهل حلب انطلقوا إلى أهل بغداد؛ يشرحُون ويفسّرون ويُنبّهون، فوجد كلامُهم آذاناً صاغيةً وعقولاً فاهمة، وقلوباً واعيةً من أهل بغداد، فكانت ردّة الفعل كبيرة، بل غير مسبُوقة في هذا الزمن..
 

فِي أوائل سنة 1111م بدأت الجُيوش الإسلاميَّة تجتَمع لمحاربة الصليبيين، وكان مركزُ التَّجمع هو مدينُة الموصل، حيث الأمير المجاهد مودود، وحيث الشعب الواعِي، المُحِب للجهاد.

لقد نظَّم الشّعب مُظاهرةً ضخمة خرجت في أحد أيام الجمعة تطالب صراحةً بالجهاد في سبيل الله لإخراج الصليبيين من ديار الإسلام، وتوجّهَت المُظاهرة إلى مسجد السُّلطان وقاموا بكسر المنبر، حتى إنّ صلاة الجمعة لم تقم في هذا المسجد، ووصلت الأنباء إلى السُّلطان الذي وعد الجموع بإعلان الجهاد، لكن مرَّ أسبوع ولم يحدث شيء، فتحركت الجموع من جديد في الجمعة التالية، وذهبوا هذه المرة إلى مسجد القصر بدار الخلافة، حتى كسروا المكان الذي يجلس فيه الخليفة، وهكذا لم تقم صلاة الجمعة في هذا المسجد كما حدَثَ في مسجد السلطان في الجمعة الماضية، وصَار واضحاً أنّ الأمر لا تهاون فيه، فرضَخَ الخليفة وبدأ بالفعل في تجهيز جيشٍ كبير لقتال الصليبيين، أوكلت القيادة فيه لـ"مودود بن التونتكين".
 

لقد كان لأهل بغداد عُلُو كعب ووعي؛ نظراً لكثرة العلماء والفقهاء بينهم، فقد كانت الثورات بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء، -كما قيل- ولو صلُح علماء الأمّة اليوم لصلُح أمرُها، فكيف نرجو صلاحها، وهم اليوم في أشدّ حالتهم تنازعاً؟!

وفِي أوائل سنة 1111م بدأت الجُيوش الإسلاميَّة تجتَمع، وكان مركزُ التَّجمع هو مدينُة الموصل، حيث الأمير النبيل المجاهد مودود بن التونتكين، وحيث الشعب الواعِي، المُحِب للجهاد، ذلك الشعب الذي يمثِّل عماد الجيش، لَقد كان تجمعاً كبيراً، ولكنّنا نعلم أنَّ العبرة ليستْ بالأعداد، ولكن بالنوعيَّة، وفي الحقيقة أن من بين كل هؤلاء لا يوجد من فهم القضية بعمق، وبذل وصدق، إلا "مودود" ومن مَعَه من أهل المُوصل.
 

وبَدأ الجيش في عدَّة عمليّات تستهدف إسقاط القِلاع الصَّليبية القريبة تمهيداً لحصار مدينة "الرها"، وبالفعل سقطت عَديدُ المواقع الصليبيَّة، ووصل الجيش الإسلامي بسهولةٍ إلى مدينة "الرها"، وبدأ الحصار، وكانت "الرها" على حَصَانَتِها السابقة، بل إن الصليبيين أمدُّوها بكثيرٍ من المُؤَن والغِذاء لتصبرَ على أيّ حِصار طويل، ولم يعزم الصليبيون أبداً على الخُروج لحرب المُسلمين، وكانت النتيجَة أن شعَر الأمير مودُود أن الوقت يضيع بلا فائدة، فحصون المدينة أشدُّ من أن تسقط. فــــماذا فعل "مودود"؟

يــتــبــع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.