شعار قسم مدونات

أحمد خالد توفيق في مِيزان التاريخ واللُّغة!

blogs أحمد خالد توفيق

للغة العربية أحكامٌ وأراء تُصدرها على كل ما هو أدبي يخصها، لكنها لا تنطق بها -فنسمعها نحن البشر- حسبنا نقرأها في تاريخ الأدب العربي، ذلك الباب الذي إن طرقناه سيهدينا إلى الرأي السديد، والفهم الرشيد، أمامنا واحد من الذين ذِيع صرير أقلامهم خلال العقدين الماضيين من الزمن ولا زال صداه يتردد في الصُحف والمواقع كل يوم، هنا -كما أطلق عليه قُرّاؤه- العرّاب، كاتب الشباب الأول، ورسولنا من عالم الخيال والرعب، صانع الشخصية الأكثر رِواجًا "رفعت إسماعيل" بطل العقل، الذي ما ترك شابًا إلا وأثر فيه على نحو إيجابي أو سلبي، الأهم أنّه فكرة تبلورت وخرجت إلى المجتمع فلاقت استقبالًا واسعًا غير مُتوقع، فالكاتب كما يقول في لقاء مُتلفز: "لم أكُن أتخيل أن يستقبل الشباب الشخصية وتوابعها هكذا، الأمر الذي أصابني بالصدمة، فأعمالي في باب الرُّعب تجسيدًا لخيالات الطفولة ومحاولة لكبح رعبي".

بداية العرّاب

في العاشر من يونيو عام تسعمائة واثنين وستين ولد أحمد خالد توفيق وانتسب إلى كلية الطب جامعة طنطا، وتخرج فيها وحصل على درجة الدكتوراه، وكانت بدايته مع المؤسسة العربية الحديثة حيث سلسلة "ما وراء الطبيعة" والتي لم تلقى قبولًا في البداية، الأمر الذي كان سيؤول به إلى التوقف عن الكتابة بعد فترة قصيرة. إذ جاء في تقرير اللجنة أنّ الأسلوب رديء ومُفكك، وتنقصه الحِبكة، وفيه الكثير من الغموض.

سلسلة  ما وراء الطبيعة (مواقع التواصل)
سلسلة  ما وراء الطبيعة (مواقع التواصل)

غير أن مدير النشر وقتها الأستاذ حمدي مصطفى أبى أن يترك اليأس في عيني الشاب الطموح، فقرر تشكيل لجنة ثانية والتي جاء تعليقها: "الأسلوب ممتاز، ومترابط، به حِبكة روائية، فكرة القصة واضحة، وبها إثارة وتشويق." كان هذا التعليق للدكتور نبيل فاروق صاحب أسطورة البطل المُستحيل التي ملكت الشارع وعقول القُرّاء وقتها، لتكون هذه الكلمات البسيطة نافذة أحمد خالد توفيق إلى عالم الكتابة.

أعماله في الميزان

لنتفق أن اللون الذي يكتبه أحمد خالد توفيق، نوعٌ جديد دخيلٌ على الأدب العربي ليس لأنه ما استطاع أحد أن يكتب فيه من قبل، ولكن لأن الكتابة فيما مضى كانت ذات نمطٍ ثابت تحكمه الفصحى الرصينة بحدود البيان العالٍ، والبلاغ السامٍ، ومن ثَمّ كان من العسير أن يكتب أحدًا في هذا الدرب دون أن يتخلى عن الفصحى والبلاغة والبيان والترادف، وهذا ما فعله أحمد خالد توفيق.

المطلع على تاريخ الأدب العربي في الحِقبة التي جمعت الأستاذ العقاد بالرافعي وطه والحقبة التي تربع الأستاذ نجيب محفوظ على عرشها يجد أحمد خالد توفيق أقرب ما يكون إلى الأخيرة

أعماله لا تخلو من الفكرة أو المضمون، ففي ما وراء الطبيعة نجد رفعت إسماعيل الذي يعتز بعروبته ويلتزم بدينه، ويفخر بعبقريته، وفي سلسلة الفانتازيا التي جسد فيه نظرته للواقع من خلال عبير الشخصية الرئيسة في العمل، وهكذا في سلسلة سفاري، إلا إن الرجل قد تخلى عن جمال اللغة العربية وتنوع مرادفاتها وروعة بيانها وفصحتها الرصينة أو قُل ضحى الكاتب بالأسلوب من أجل الفكرة وهذا ما جعله يركن إلى الابتذال.

غير أنه للرجل فضلٌ لا يمكن إنكاره، فالمطلع على تاريخ الأدب العربي في الحِقبة التي جمعت الأستاذ العقاد بالرافعي وطه والحقبة التي تربع الأستاذ نجيب محفوظ على عرشها يجد أحمد خالد توفيق أقرب ما يكون إلى الأخيرة، فالوضع الأدبي اليوم أكاد أجزم أنه كان ليسقط سقطة ولن تُقام له قامة بعدها غير أن العرّاب بواقعيته التي لامسناها في رواياته الأخيرة وعلى رأسها رواية يوتوبيا المُنقحة، استطاع الرجل أن يعيد للشارع بعض المجد الأدبي بالفصاحة والبيان واعتدال الكلمات وجزالة الأسلوب حديثًا مع ثبات الفكرة والرسالة.

العرّاب كاتب الشباب!

يقول الرجل في لقاء مُتلفز أنّه يكتب للشباب فقط وأنهم ينعتونه "عمو أحمد" وأن قلمه يستشعر دائمًا مسؤوليته فيما يكتب لهذه الفئة الناشئة التي ليس أسهل عليها من أن تتأثر بفكر أو بمصطلح أو بقصة تُساق إليها، وعندما أرسل له أحد قُرّاؤه يقول إن صديقه أصبح يُدخن حبًا في رفعت إسماعيل، قال الكاتب أنه أوقف استخدام كل الكلمات التي تصف التدخين وتؤدي لوجوده، هذا تصرف نبيل أن تخطأ فتدرك الخطأ، وتعتذر.

وماذا بعد؟

جاء أحمد خالد توفيق بنقلة نوعية في روايته "السِنجة" والتي كتب فيها إيحاءات جنسية صريحة، الأمر الذي جعله يواجه نتيجتها نقد شديد لاذع، ألا يكتمل المعنى والرسالة بغير هذا النوع؟  بلى، لكن الكاتب هنا نزل إلى رغبة الجمهور الذي يلقى مثل هذا برواج واسع وإقبال كبير وهذا عيب يُأخذ عليه، فكيف تقول أن لقلمك مسؤوليته وتأتي بمثل هذا؟ إن الكاتب الحق لا ينزل إلى رغبة الشارع ولكنه يسمو برغبة القُرّاء إلى ما هو أصح وأقوم.

أحمد خالد توفيق ومواقفه السياسية

الكتابة مسؤولية كبرى، والأقلام لها توابع ومُريدين، فالحرفُ يجر كلمةً والكلمة تجر جملةً، والجملة تبني سطرًا، والسطر يغير رأي القارئ. كتب العرّاب في جريدة الدستور التي حُسبت على المعارضة لنظام مبارك، وكان قلمه لا يملك الجرأة الكافية، فحاول أن تكون له رسالة بين السطور إلا أنه سرعان ما كان يتراجع عنها في نهاية المقال بعبارة: " لن أتحدث أكثر من ذلك لأن بلاط السجن بارد جدًا في هذا الوقت من العام، كما تعلمون."

وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير كتب أحمد خالد توفيق قصة "أطفال بلا مناسبة" المنشورة في موقع بص وطل في السابع عشر من مايو عام ألفين واثني عشر والتي أعلن من خلالها تأييده لحمدين صباحي، فقد ختم القصة قائلًا:

يقول الرجل في لقاء مُتلفز أنّه يكتب للشباب فقط وأنهم ينعتونه
يقول الرجل في لقاء مُتلفز أنّه يكتب للشباب فقط وأنهم ينعتونه "عمو أحمد" وأن قلمه يستشعر دائمًا مسؤوليته فيما يكتب لهذه الفئة الناشئة التي ليس أسهل عليها من أن تتأثر بفكر أو بمصطلح أو بقصة تُساق إليها

"بصراحة لو كنت مكان الحسناء السمراء لاخترت النسر، أنا أثق بالنسور وأحبها، لقد رأيت هذا النسر الشامخ مرارًا وأعرف أنه الاختيار الصحيح على الأرجح، أما عن الحسناء فقد اتخذت قرارها قبل أن تعود لدارها، وقبل أن تخرج الذئاب المتعطشة للدم، اختارت البرادعي، وتوتة توتة فرغت الحدوتة، عزيزي القارئ.. أي تشابه تكون قد لاحظته بين القصة السابقة وبعض الرموز الانتخابية لبعض مرشحي الرئاسة هو تشابه مقصود." والذي اعترف بخطأه فيه بعد ذلك وانتقد حمدين صباحي نفسه.

غير أن الكاتب كان له رأي في اعتصام رابعة وكتب مقال بعنوان "عزاء بالجملة" المنشور في جريد التحرير في التاسع عشر من أغسطس عام ألفين وثلاثة عشر بعد وقوع المجزرة، يبدأه بقوله 30 يونيو ثورة ولم تكن انقلابا لكثرة من اعترضوا على مرسي على حد قوله هذا رأيه لا دخل لنا به، لكن الرجل أصر على إظهار ما في قلبه، فقد اقترح أنه كان بوسع الداخلية أن تحاصر الاعتصام بإحكام ولا تسمح بدخول الطعام والماء والوقود، وأجزم أن الاعتصام لم يكن سلميًا بالكامل، ورغم اعترافه بخطأ الشرطة في إطلاق النيران وقوله الفعلي أنهم لا يسلمون جثمان الشهداء إلا لمن يمضي بأن ولده مات منتحرًا.

 

انحاز في نهاية المقال للشرطة والجيش وقال نصًا: "ومن لم يؤرقه مشهد ضباط وجنود كرداسة المذبوحين لا يستحق لقب بشرى أصلا. فى النهاية هم لم يكونوا يطلقون الرصاص على المعتصمين عندما تم ذبحهم. كانوا يؤدون واجبهم."

إلا إن الرجل وبعد مرور ثلاثة أعوام اعتذر يوم السابع عشر من أغسطس عام ألفين وستة عشر عن مقاله مع موقع اليوم الجديد، حدادًا على ضحايا المجزرة، فهل استيقظ العرّاب من غفلته كباقي الشعب حديثًا؟ يبقى لأحمد خالد توفيق ما له وما عليه كأي كاتب، لكن يموت المرء ويبقى أثره، والكلمات التي تكتب لا تمحى والتاريخ لا ينسى، فعلينا أن نعتبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.