شعار قسم مدونات

الرجال.. مقابل أحطّ العبيد

blogs المقاوم الفلسطيني

 (1)

نشرتُ مقالة سابقة سمّيتها "أحطّ العبيد.. الخونة الصغار"، تناولت صنفًا من العبيد، أي من عبيد الطغاة، وهم هؤلاء الذين يتطوّعون ببيع آخرتهم في سبيل دنيا غيرهم، وخصّصت منهم بالذكر، الذين لا يكتفون بالدفاع عن جرائم الطغاة، بل يتطوّعون فوق ذلك للدفاع عن خياناتهم، أو للتمهيد لها، وضربت على ذلك أمثلة من الكتبة والإعلاميين وغيرهم من مروّجي التطبيع مع العدو، وناشري الإفك بخصوص فلسطين وقضيتها.

 

وما أن انتشرت تلك المقالة، حتى ظهر إلى العلن غزل بين السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وبين الكاتب والروائي المصري يوسف زيدان، والذي سبق له وسرق مقولات غاية في التهافت المعرفي والواضعة الفكرية من مؤرخ صهيوني يُدعى مردخاي كيدار يدّعي فيها أنه لا وجود للمسجد الأقصى في فلسطين، وقد نشط زيدان أخيرًا في محاولة تحطيم قيمة صلاح الدين لدى العرب والمسلمين.

 

يقول زيدان إن ثناء السفارة الإسرائيلية عليه يأتي ردًّا على آخر ما قاله في طلعاته التلفزيونية عن نبذ الكراهية والسعي نحو السلام، وعلى قوله إنّ أسباب الكراهية والحقد منحصرة في المتطرفين من الجانبين، وهو بذلك ينفي السبب الجوهري للكراهية والحقد وهو الاحتلال الصهيوني للأرض العربية، ولا يحتاج الصهاينة لأكثر مما قاله، بيد أنّه بالتأكيد كانت في ذهن السفارة الإسرائيلية بالقاهرة دائمًا جهود يوسف زيدان في إنكار وجود المسجد الأقصى بفلسطين، وهراؤه الفكري حول التاريخ "اليهودي" في فلسطين.

 

يوسف زيدان (مواقع التواصل)
يوسف زيدان (مواقع التواصل)

جعل يوسف زيدان تعقبيه على ثناء السفارة الإسرائيلية عليه؛ رسالة لعبد الفتاح السيسي، افتتحها بهذه الجملة: "هذا بيان مرفوع للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي قال ناطقًا باسم مصر: نحن نريد السلام في المنطقة، ونريد البناء لا الهدم"، كأنّ زيدان باختصار، يطلع رئيسه على نتائج جهوده في تذليل العقبات أمام التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يذكّر بتسريب صوتي سابق لزيدان يقول فيه إنّه عرض كلامه عن المسجد الأقصى على السيسي في سياق السعي لإنهاء الصراع مع الإسرائيليين!

 

على أيّ حال انتفاخات يوسف زيدان بمحض الادعاء الكاذب ليست موضوعنا الآن، ولكنّه يصلح نموذجًا جيّدًا على موضوع المقالة السابقة وعنوانها، والنموذج الذي نودّ إبراز ضدّه في هذه المقالة.

 

(2)

يُقدّم القرآن نموذجًا مقابلاً لنموذج العبيد المنحطّين، يعلي القرآن من قيمته بإغفال أسماء أصحابه الذين يتمثّل بهم النموذج، لأن القيمة في المبدأ الذي لا يفنى في التاريخ والوجود الإنساني، والتركيز على المبدأ وسمات الشخصية وأفعالها أجدر للقول إنّ النموذج قابل للتكرار، ولأنّ الدنيا محض مَهَمّة وليست غاية الجزاء، فالجزاء الأخروي أعظم من إشهار الأسماء في الفانية، وطمس الأسماء قد يكون ضروريًّا لأجل المَهَمّة بالتركيز على النموذج والفعل.

 

على الضدّ الكامل من نموذج العبيد المنحطّين، يأتي هذا النموذج، فاختار القرآن الرجولة وصفًا لهم، بمعنى أنّهم في الذروة مما يمكن لمن هم دون الأنبياء الوصول إليه من كمالات الإنسان في الحياة الدنيا، وهذه الكمالات هي الدرجات التي يكون فيها الإنسان أكثر تخلّصًا من الأعلاق التي تنحطّ بالإنسان إلى درجات العبيد، فكلما كان المرء أكثر تحررًا من أهوائه، ومخاوفه وشهواته، كان أكثر احترامًا لنفسه على الحقيقة، وكان أكثر مروءة وشهامة، وبكلمة أخرى جامعة، كان رجلاً.

 

نور الله لا ينعكس في وجه ينصر طاغية، أو يثني عليه بما ليس فيه، أو يشهد له بالباطل، أو تعجز بصيرته عن وزن سيئاته الفاحشة إلى حسناته القليلة والمتوهمة

في سورة القصص، يضرب القرآن مثلاً بواحد من هؤلاء لم يذكر اسمه، إذ يقول: "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ"، ويُلاحظ هنا أن القرآن قدّم ذكر الرجولة في هذه الحادثة، على ذكر المكان البعيد، بينما في آية سورة "يس" يُقدّم أولاً بُعْدُ المكان، وكأنّ المخاطرة في سورة القصص أعلى، فاستحقّ الأمر التنويه إلى صفة الرجولة أولاً التي ذلّلت عقبة تلك المخاطرة، فالأثمان المؤكّدة نتيجة مخالفة الكائن الأكثر طغيانًا في تاريخ البشر باهظة.

 

بينما في سورة "يس" قُدّم في الذكر بُعْد المكان، ربما لأجل خصّ روح المبادرة والإحساس بالمسؤولية والقيام بالواجب بمزيد تنويه، فالمكان القصي إذا اجتمع إلى القوم الذين لم يُثمر فيهم ثلاثة مرسلين مجتمعين؛ يصبح عائقًا في النفس، وسؤالاً مطروحًا عن الجدوى، بيد أن الغلبة كانت لسؤال الواجب لا سؤال الجدوى، وفي الحالتين اجتمعت المخاطرة ببعد المكان.

 

في درجة ما من درجات العبيد يكون سؤال الجدوى والممكن دائم الحضور والإلحاح، لكن قد ينحطّ العبد إلى درجة لا يحضر فيها أيّ من السؤالين، لانسحاق العبد وتحطمه تمامًا، فهو فاقد القدرة على التفكير فضلاً عن القدرة على السؤال، وإنما يتبع غريزة العبودية فيه فحسب، وهذا هو صنف أحطّ العبيد، ومنه الذين يتطوّعون دون أي مكسب للدفاع عن الطغاة!

 

وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مثلٌ عالٍ لهذا النموذج من الرجال، من المدفوعين بالإحساس بالواجب، وهو ذلك الرجل الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- "من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه"، فإنّ من خير معاش الناس، يعني من أحسن ما يكونون عليه في الحياة الدنيا، أن يكون الرجل باحثًا عن الواجب، فإن لم يكن بهذه الدرجة العليا من القوّة فليس أقل من أن يكون "في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير"، أي فليكن في أقل أحواله ممتنعًا عن ظلم الناس، قائمًا بحق دينه.

 

والملاحظ أن هذا الصنف من الرجال يستفزّه الباطل ولا يمكنه أن يكتم الحقّ الذي في صدره، وهذه أول علامات التمييز بين الرجال في أدنى مراتبهم وبين الذين يلونهم من دونهم، وهو ما يمكن وصفه بأضعف الإيمان كما في الحديث، بيد أن الرجال غالبًا لا يملكون دفع واردات الحقّ عن قلوبهم، فتظهر في أقلّ أحوالهم في تضاعيف وجوههم، ثم في نفرتهم من الباطل، فتكون عزلة بعضهم خيرًا لهم، باعتبار أنهم لا يملكون الكتمان لكنهم قد يضعفون في المواجهة، فكان المثال الثاني في الحديث السابق من خير معاش الناس، بينما ظلّ المثل الأول الأعلى رتبة، والحاصل أنّ من لم يضق صدره بالباطل ولم يجد نفسه مندفعًا في أكثر أحواله لقول الحقّ فليس من الرجال يقينًا.

 

إذا كان المسجد مكان الصلاة الجامع، فإنما هو يجمع الناس على ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الانحطاط لدرجات العبيد، فإنما هو دخيل على المسجد، غير جدير به
إذا كان المسجد مكان الصلاة الجامع، فإنما هو يجمع الناس على ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الانحطاط لدرجات العبيد، فإنما هو دخيل على المسجد، غير جدير به
 

ومثال ذلك العالي مؤمن آل فرعون، الذي مع كتمه إيمانه، فإنّه ما استطاع السكوت عمّا يُدبّر لموسى عليه السلام في ملأ فرعون، بيد أنه وإن راوغهم في حجته، كقوله "وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ"، فإنّ بقية كلامه إعلان صريح عن إيمانه، فواردات الحقّ على قلبه غالبت مراوغة الخطورة، فلم يكن موقفه حماية لموسى فحسب كقوله "أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ"، بل كان فوق ذلك إعلانًا بالانحياز، ودعوة إلى الحقّ، وهذا شأن الرجل، الذي يضيق بالعجز والسلبية والحياد!

 

ولما كان شأن الرجال كذلك، جعل الله الرجولة، مثالاً لنور الله -جلّ وعلا- في المساجد "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (*) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (*) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".

 

فالأجدر بالانتساب لبيوت الله، هم الرجال، الذين في أقلّ أحوالهم لا يملكون كتمان واردات الحقّ على قلوبهم ولا يمكنهم إلا النفور من الباطل، وهذا وحده سبيل التمييز بين روّاد المساجد من الرجال الذين تُستضاء بهم المساجد، وبين المنافقين، وهو شرط تمييز على طول الأمر، فمهما كانت المصالح، والمخاوف، والشهوات، يظل هذا هو شرط التمييز، بين الأجدر لأن ينتسب إلى الله ونوره، وبين الدعي الدجال المنافق، ففي أدنى الدرجات يسع الرجل إن خشي وهن قوته السكوت، لكنّ نور الله لا ينعكس في وجه ينصر طاغية، أو يثني عليه بما ليس فيه، أو يشهد  له بالباطل، أو تعجز بصيرته عن وزن سيئاته الفاحشة إلى حسناته القليلة والمتوهمة.

 

وإذا كان المسجد مكان الصلاة الجامع، فإنما هو يجمع الناس على ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الانحطاط لدرجات العبيد، فإنما هو دخيل على المسجد، غير جدير به. وحديث الرجال ذو شجون وله بقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.