شعار قسم مدونات

جوزيف ستيغليتز مرتد عن الرأسمالية أم صحوة ضمير؟

ستيلغيتز

في عصر الهيمنة والبعد عن الواقعية لا صوت يعلو فوق صوت أيديولوجيا الليبرالية والنيوليبرالية الرأسمالية على النمط الأميركي٬ يجند لها جيش من الخبراء أو ما يطلق عليهم بالمثقفين، مزودين بترسانة من وسائل الإعلام المختلفة والإمكانيات الضخمة، لكن بالرغم من كل ذلك تظهر بعض الأصوات الناشزة والناقدة لهذا الوضع المذري والمتستر بأقنعة الديمقراطية، كصوت للضمير الإنساني الحي والمدافع عن الضعفاء في هذا العالم المجنون.

لعلي أحدثكم اليوم على الاقتصادي المثير للجدل "جوزيف ستيغليتز" أو المرتد عن الرأسمالية كما يلقبه أنصار إجماع واشنطن، والمعروف بمعارضته الشديدة للسياسات الاقتصادية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، ستيغليتز الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، وحامل جائزة نوبل للاقتصاد سنة ألفين وواحد، شغل بين 1993 و1995 رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون، ثم عين كبير الاقتصاديين ونائب رئيس البنك الدولي بين 1997 و2000، وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية في سنة 2009 تم تعيينه على رئيسا للجنة خبراء إصلاح النظام النقدي والمالي الدولي، يعد ستيغليتز الاقتصادي الرابع الأكثر تأثيرا في العالم اليوم، كما تم تعيينه من قبل مجلة التايم واحدا من 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم سنة 2011.

يقول ستيغليتز بأنه كان مولعا دائما بالتنمية الاقتصادية، إلا أن ما رأيته في الواقع قد غير وجهات نظري جذريا في العولمة والتنمية، فقد رأيت عندما كنت في البنك الدولي التأثير المدمر الذي يمكن أن تلحقه العولمة بالبلدان النامية، ولا سيما بين الفقراء في تلك البلدان… لذا نحن بحاجة إلى أن يعاد التفكير بها جذريا.

بعد سبع سنوات قضاها في مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة والبنك الدولي، أضافت لخبرته الأكاديمية الطويلة تجربة فريدة من نوعها، مكنته في النهاية من الإحاطة بمعظم الأحداث الاقتصادية البارزة في القرن المنصرم بما فيها الأزمة الاقتصادية لجنوب شرق آسيا، وفترة التحول التي مرت بها دول الاتحاد السوفياتي، والوقوف على البرامج التنموية المختلفة في دول العالم الثالث، خرج في النهاية ساخطا على السياسات المتبعة للمؤسسات المالية الدولية، فقد مكنته هذه التجربة من الوقوف على كيفية استخدام هذ المؤسسات لنماذج اقتصادية عفا عليها الزمن واستخدامهم لمبادئ إجماع واشنطن، لم تنتج عنها سوى المآسي، كما اكتشف داخل المؤسسات الرئيسية للعولمة رغبة مدمرة في التكتم والسرية زادت من الأخطار تفاقما، دفعته للاستقالة في النهاية من هذه المؤسسات، مغلبا ضميره الانساني على المصالح الخاصة والإيديولوجية الضيقة.

تمر اليوم خمسة عشر سنة على كتابه الموسوم ب "العولمة ومساوئها" أو "العولمة وخيباتها" ولا يزال الرجل على موقفه، فقد أثار غضبا عارما على أعلى المستويات في المؤسسات المالية الدولية والخزانة الأمريكية، نتيجة نقده اللاذع لمؤسسة بريتون وودز، وسياستها في التعامل مع الأزمات والدول النامية، وما خلفته من آثار مدمرة زادت الأمور تعقيدا، ورفعت مستويات الفقر، وذلك بسبب مشروطية قروضه التي تفرض تطبيق سياسات اقتصادية تقشفية وانفتحاية توغل البلدان الدائنة في أزماتها، وتعمق إشكالاتها الاقتصادية، وترفع الكلفة الاجتماعية، عوضا عن مساعدة هذه البلدان على تحفيز الاقتصاد لكي يسترجع دينامكيته.

يقول ستيغليتز بأنه كان مولعا دائما بالتنمية الاقتصادية، إلا أن ما رأيته في الواقع قد غير وجهات نظري جذريا في العولمة والتنمية، فقد رأيت عندما كنت في البنك الدولي التأثير المدمر الذي يمكن أن تلحقه العولمة بالبلدان النامية، ولا سيما بين الفقراء في تلك البلدان… لذا نحن بحاجة إلى أن يعاد التفكير بها جذريا.

كما يتأسف ستيغليتز من أن القرارات غالبا ما تتخذ لأسباب إيديولوجية أو سياسية، ولهذا اتخذت العديد من الإجراءات غير الصائبة، إجراءات لم يكن الغرض منها حل المشاكل القائمة، بل كانت تصاغ بما ينسجم ومصالح أو قناعات أولئك الموجودين في السلطة فقط، وبما يخدم الشركات الكبرى والنخب المالية العالمية. ويذهب ستيغليتز بعيدا في اتهام الدول الغربية بالنفاق، فقد دفعت هذه الأخيرة البلدان النامية إلى إلغاء الحواجز الجمركية، في حين أبقت هي على حواجزها في وجه الصادرات الزراعية للدول النامية، كالمبالغة في الشروط الصحية، أو الدعم الذي تمنحه لمزارعيها، ويضرب لنا مثلا عن الدعم الذي تمنحه الولايات المتحدة لمزارعي القطن، رغم أن عددهم لا يتجاوز بضعة آلاف، وهذا ما يؤدي إلى خسارة أكثر من عشرة ملايين مزارع لمناصب عملهم في دول إفريقيا جنوب الصحراء.

وكيف أن دخول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية قد أضر بمزارعي الذرة في المكسيك، فقد انخفض سعر الذرة بأكثر من خمسين بالمائة نتيجة دعم الولايات المتحدة لمزارعي الذرة، مما ساهم في إفقار هذه الشريحة في المكسيك أكثر فأكثر، ويمضي ستيغليتز في نقده لسياسة الدعم التي تنتهجها الدول المتقدمة، بقرة في أوروبا تنال من المال أكثر مما يناله نصف سكان الأرض، فالدعم الحكومي البالغ دولارين في اليوم للبقرة في أوروبا يعادل المبلغ المحدِّد لخط الفقر الذي يعيش أكثر من40 بالمائة من سكان الكوكب تحته، أي أن تكون بقرة في أوروبا أفضل من أن تكون شخصا عاديا في إحدى البلدان النامية.

نحن في النهاية أمام نظام عالمي ترتبط فيه بضعة مؤسسات كالبنك الدولي والصندوق النقدي الدولي ومنظمة التجارة العالمية وبضعة لاعبين كوزراء المالية والتجارة ومحافظوا البنوك المركزية بشكل وثيق بمصالح مالية وتجارية معينة تهيمن على المشهد العالمي.

كما ينتقد ستيغليتز المؤسسات المالية الدولية لعدم استجابتها للمعايير الديمقراطية والشفافية وعدم خضوعها للمسائلة المباشرة أمام الرأي العام، بالرغم أن نتائج سياساتها تؤثر على جميع جوانب الحياة في الدول النامية خصوصا، كما أن التصويت بدل أن يكون صوت لكل دولة، تنفرد الدول المتقدمة بحصة الأسد من القوة التصويتية في الصندوق النقدي الدولي استنادا إلى ثروتها القومية، وهو ما يتنافى مع القواعد الديمقراطية، يقول ستيغليتز لكم أن تتخيلوا مليارديرا كجورج سوروس أو بلقايتس مثلا يمكنه أن يحوز على الملايين من الأصوات عند انتخابه من يمثله، في حين يحوز الشخص العادي على صوت واحد فقط، فهذا غير معقول.

كما تؤثر مشكلة انعدام الشفافية في جميع المؤسسات الدولية ولو بطرق مختلفة قليلا، ففي منظمة التجارة العالمية تجري كافة المفاوضات المؤدية إلى إبرام الاتفاقيات خلف الأبواب المغلقة، مما يجعل من الصعب رؤية تأثير مصالح الشركات والمصالح الأخرى الخاصة. ويتهم أيضا هذه المؤسسات بأنها أحلت الإيديولوجية محل علم الاقتصاد، إيديولوجية أعطت اتجاهات واضحة إن لم يكن توجيها دائما ناجحا، إيديولوجية كانت تنسجم تماما مع مصالح المجتمع المالي. مما جعلنا في النهاية أمام نظام عالمي ترتبط فيه بضعة مؤسسات كالبنك الدولي والصندوق النقدي الدولي ومنظمة التجارة العالمية وبضعة لاعبين كوزراء المالية والتجارة ومحافظوا البنوك المركزية بشكل وثيق بمصالح مالية وتجارية معينة تهيمن على المشهد العالمي.

وفي النهاية يرى ستيغليتز الذي انتصر لصوت الضعفاء ولم تغره المصالح الشخصية أو الشهرة الواسعة من الانحياز إلى إيديولوجية معينة أنه قد آن الأوان لتغيير بعض قواعد اللعبة التي تحكم النظام الاقتصادي الدولي والتفكير مرة أخرى بالكيفية التي تصنع بها القرارات على المستوى الدولي ولمصلحة من والتخفف من الإيديولوجية المقيتة والنظر إلى ما ينجح فعلا ويخدم الجميع على قدم المساواة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.