شعار قسم مدونات

طهيّ.. من نوعٍ آخر

blogs - birthday

بعدَ طولِ انتظار، أخرجَت قالبَ الكعكِ مِن فُرْنِها لتَجِدَهُ مُحتَرِقاً مِن أسفَلِه وعجيناً مِن باطِنِه، حاوَلَت أن تتذَوَقُ جزءاً مِنْهُ خِلسَة فإذا بمذاقِه سيءٌ للغاية؛ يبدو أنها لم تُخطئ في عياراتِهَا فحسب، بل هي استبدلَت السكّرَ بالملح أيضاً! بشعورٍ مِنَ الحسرة نظرَت لأدواتِ التزيين التي انتقتها بعناية فائقة؛ فلقد أرادَت لهذا القالب أن يَكُوُنَ مُبهِراً لكلِّ مَن يراه. وفجأةً أمسكَت الأدوات بعناية وابتدأت التزيين.

طبقة الكريمة تبدو ناصعةَ البياض كثلجٍ ما زال يتساقَطُ مِن السماء، أضافَت فوقها أشكالاً ووروداً ورشَّةً من الألوان.. القالِبُ يبدو مُفعماً بالحياة، جميلاً حدَّ الدهشة. أمسكت هاتفها، وابتدأت التصوير وإرسال ما التقطت لكل من تعرف. الكلُّ يُثني على جمالِ ما صنَعَت. الكُلُّ يرسلُ إليها كلمات الإعجاب والتقدير. عاشَت اللحظة فرحةً بالإنجاز، ناسيةً حقيقة قالبِها الذي أمسكت به ووضعته بثلاجَتِها لتقدِمَهُ لضيوف المساء.

قبل أن يُعجِبُك ثناءُ النَّاس عليك حاول أن تتذوق شيئاً مِنكَ سريعاً؛ تأكد أنَّ روحك بخير وتحبُّ للناس الخير، تأكد أنك تُحسِنُ الحياةَ مع أقربِ الناس إليك قَبْلَ أن تُحاوِل أن تُحسِنَها مع أبعدِ النَّاس عنك

يبدو ما فعلتهُ مُضحكاً إلى حدٍ ما، وتبدو هي على ثقة من النفس في غير موضعها، أليس كذلك؟ نبدو نَحْنُ كذلك أيضاً في مواقف كثيرة. أنت كهذا القالب عندما تحرصُ أن تُظهِرَ للناس أجمل ما عندك لتبدو راقيَ الصفات وتنسى أن تبني في داخل نفسك الجمال الذي تحتاج. أنتَ كهذا القالب عندما تُسْمَعُ أصواتُ ضحكاتك عالية مدوية في كل مكان لتنمَّ عن شخصٍ باعثٍ للبهجة رغم أنك لا تعرف إِلَّا أن تكون عبوساً مع أقرب النَّاس مِن حولك. أنتَ كهذا القالب عندما تركض للناس في قضاء حوائجهم بينما لا يملك أهلك أن يطلبوا منكَ حاجتهم خوفاً منكَ ومِن غضبك. أنتَ كهذا القالب عندما تُحَدِّثُ النَّاسَ عن الله وعن الدين ثم ترضى لنفسكَ أن تكذبَ أو أن تَظلِم. نَحْنُ جميعاً كهذا القالب عندما يُنسينا ثناءُ الناس على جميل ظواهرنا أن في الباطن ما نحتاجُ مُعالَجَته، ما نحتاجُ إعادةَ خبزِه، ما نحتاجُ تكرارَ صُنعِه.

قبل أن يُعجِبُك ثناءُ النَّاس عليك – وكلُّنا يعجبُهُ الثناء – حاول أن تتذوق شيئاً مِنكَ سريعاً؛ تأكد أنَّ روحك بخير وتحبُّ للناس الخير، تأكد أنك تُحسِنُ الحياةَ مع أقربِ الناس إليك قَبْلَ أن تُحاوِل أن تُحسِنَها مع أبعدِ النَّاس عنك؛ فخيرُ النَّاس خيرُهُم لأهلِه، تأكّد أن قلبكَ نقيٌ حقاً ككلماتكَ التي تُحسنُ انتقاءها؛ فاللَّهُ ينظرُ إلى قلبِكَ أولاً. قبل أن تتصدَّر المجالس للحديث وقبل أن تنشر كلماتك تأكّد أنَّكَ تحتفظ بخزينة ثقافية حقيقيةً وأن تقفُ ثابتةً على منصةٍ من علم بما تقول.

قد لا تُتقِنُ مهارة الطهي وإعداد المأكولات وقوالب الحلوى وفن تزيينها وتقديمها، لكنَّكَ ستحتاجُ أن تُتقن مهارةَ الطهي من نوعٍ آخر بأن تُعدَّ نفسكَ باطناً وظاهراً، وتُزيّنها بالخلقِ والإتقان روحاً وجسداً. وتذكَّر وأنتَ في خضمِّ هذا الطهي دعاء السلف إذ كانوا يرددون إن أُعجِبَ أحدٌ بصنائعهم: "اللهُمَّ اجعلني خيراً ممّا يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.