شعار قسم مدونات

علماء السلاطين وفقهاء البلاط

blogs - شيوخ الدين
إن الأنظمة البوليسية في كل مراحل التاريخ تنظر إلى الدِّين باعتباره الأساس القادر على حشد الجماهير وتوجيههم. ولأن الطغاة حريصون على تثبيت عروشهم حتى يوم القيامة، فإنهم يحرصون على السيطرة على المؤسسات الدينية، واستقطاب علماء السلاطين الذي يُفصِّلون الفتاوى حسب مزاج الطغاة والعصابة الحاكمة بالحديد والنار، ويوجِّهون الآراء الفقهية نحو بوصلة الراتب الشهري.

ونحن نجد أن المؤسسات الدينية تابعة للأنظمة السياسية، وليس لها صوت مستقل، بل هي تتكلم بأمر السلطة السياسية، وقد فهم الحكام أهمية توظيف الدين لصالح تثبيت سُلطتهم، وأهمية ارتباطهم بالقيم الدينية _ ظاهرياً _ لجذب الرأي العام، وحشدِ الجماهير حولهم. ولدينا أمثلة باهرة من الشرق والغرب. فقد ظهر في ثقافتنا ألقاب من قبيل: الحاكم بأمر الله، والواثق بالله… إلخ. وفي الغرب ظهر الإمبراطور شارل الخامس بلقبه "حامي الكنيسة الكاثوليكية". حتى إن الملكة إليزابيث رأس النظام السياسي في بريطانيا هي ذاتها رأس الكنيسة على الرغم من علمانية النظام البريطاني _ شكلياً_ وتوظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية إنما يأتي في سياق توفير شرعية للحكام، وتبرير أفعالهم، وإقناع الناس بأهمية وجودهم كحُماة للحضارة والتاريخ.

إن فقهاء البلاط الذين أداروا ظهورهم لقضايا الأمة المصيرية، واكتفوا بالفتاوى البعيدة عن الواقع، هم انعكاس طبيعي لتخلف الأمة، وانهيارها على كافة الأصعدة. ووجود هؤلاء العلماء المرتزِقة في أماكن صنع القرار في العالَم الإسلامي يُعتبر أفضل تجنيد للشباب في التنظيمات المتطرفة، التي تُكفِّر الحكامَ والمحكومين، وتُؤمِن بحمل السلاح ضد الدولة.

لا بُدَّ من استعادة دَور الأزهر وتحرير علمائه من هيمنة الراتب الشهري، وذلك بالقيام بإجراءات ملموسة على أرض الواقع. أمَّا التغني بأمجاد الماضي فلا يمكن أن يُؤثِّر في مسار الحاضر.

وكثيرٌ من الشباب العربي والمسلم فقدوا ثقتهم بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمستقبل المزدهر، واختفاء البطالة، والتنمية البشرية، ودولة القانون والمؤسسات، والرجل المناسب في المكان المناسب. واقتنعوا بأن هذه خرافات ومجرد مخدِّرات سياسية لكسب الوقت مِن قِبَل الأنظمة الحاكمة واستمرارها حتى يوم القيامة.

كما أنهم فقدوا الثقة بعلماء السلاطين أصحاب أجندة المصالح الشخصية، والذين يستخدمون الدين لشرعنة وجود الطغاة وعدم معارضتهم، وتخدير الناس ليسهل ذبحهم. وهذا دفع الشباب إلى شيوخهم الخصوصيين، واعتناق فكر التكفير، ومحاولة قلب أنظمة الحكم بقوة السلاح، وعدم التمييز بين الجهاد والإرهاب، فلم يعد يعنيهم التمييز بين عسكري ومدني.

وفي هذا السياق، تبرز قضية تراجع دور الأزهر واختفاء بريق عُلمائه، فالأزهر كان قلعة الإسلام والعروبة، ومعقل العلماء العاملين القادرين على قَول: (( لا )) في وجه الحكام. أمَّا الآن، وللأسف الشديد، فصار الأزهر مؤسسةً مُحاصَرة بالأزمات من كُل الجهات، لأنَّ الأنظمة السياسية المتعاقبة على حُكم مصر، هَمَّشت دورَ الأزهر، وحوَّلت العلماء إلى مُوظفين يَنتظرون الراتبَ الشهري، لذلك صاروا عاجزين عن تقويم الحاكم، وتقييمِ الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الدكتور أحمد الطيب (شيخ الأزهر المعيَّن لا المنتخَب) عضواً في لجنة سياسات الحزب الحاكم في فترة حُكم الرئيس المخلوع حسني مبارك. وهذا يدل -بلا شك- أن الأزهر تم اختطافه مِن قِبَل الحزب الحاكم، وتم تكريسه شاهداً على زواج الثروة بالسُّلطة.

ولا بُدَّ من استعادة دَور الأزهر وتحرير علمائه من هيمنة الراتب الشهري، وذلك بالقيام بإجراءات ملموسة على أرض الواقع. أمَّا التغني بأمجاد الماضي فلا يمكن أن يُؤثِّر في مسار الحاضر. فلم تعد تنفع المقارنة بين شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ( 1910_ 1978) الذي كان يحشد الرأي العام ضد العدو الصهيوني في حرب 1973م، وبين شيخ الأزهر محمد سَيِّد طنطاوي ( 1928_ 2010 ) الذي صافح رئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز عام 2008 م، وأيَّد الجدار الفولاذي الذي أقامه النظام المصري لمحاصرة أهل غزة. والواجب هو الخروج من دائرة الكلام التاريخي إلى الفعل الواقعي المعاصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.