شعار قسم مدونات

النصرة أو الفتنة.. والفساد الكبير

blogs-شام
جاء الإسلام دينا سماويا ينشد للبشرية ما يحقق المصالح، ويدفع المفاسد، أو يزيد من المصالح، ويخفف من المفاسد، وجاء يعلم العقلاء من المتعلمين كيف يتجنبون الشر أو يقللونه، أو يوازنون بين خيري الخيرين وشري الشرين، فيحسنون الاختيار في ذلك، ثم كيف يتعاملون مع الشر الذي لا مفر منه. وفي سبيل تحصيل ذلك نزلت نصوص قرآنية توضح تلك المطالب وتربي الناس على الممارسة العملية بقانون رباني معصوم حتى لا يكثر الخطأ والخلل بسبب القصور البشري الملازم للإنسانية.


مهما أوتيت من علم وعقل، ولأن أسباب الشرور والفتن في الأرض كلها أو جلها تنبعث من الاختلاف الديني كما هو معروف عبر التاريخ البشري، فنصت الرسالة الأخيرة من الله تعالى لأهل الأرض على عقيدة الموالاة والمناصرة في الدين بوصفها سدا منيعا في وجه الطغيان البشري باسم اختلاف الدين حيث يقول الله تعالى في بيانه لتقسيم الناس حسب الولاء في الدين: (إِنَّ الذينَ آمَنوا وَهَاجَروا وَجَاهَدوا بأموالهمْ وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) فهذا أول تعاون مبني على الولاية الدينية بين المهاجرين والأنصار، ولولا وقوع هذه الموالاة والمناصرة لما استقر الدين، ولما بقي على وجه الأرض، فهو الذي نفع الدين وأظهر الدعوة الإسلامية، بعد الإيمان والهجرة من المهاجرين الأولين الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال، باسم الدين ودخلوا على
: (الذين آووا ونصروا) من الأنصار بناء على الدين وأخوته التي جعلت منهم صفا واحدا متعاونا على أمور الدين والدنيا.


ليس أمام المسلمين من علاج لهذا الواقع المرير إلا التناصر والموالاة المبنية على قوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن في فتنة في الأرض وفساد كبير)

من أهم ما يتعاون عليه المتناصرون في الحق، الوقوف في وجه أعداء الدين الجديد في ذلك الوقت حتى يأخذ حيزا من الوجود وتظهر عظمته للناس ويكتسب الهيبة في نفوس المناوئين له، ويرغب في الدخول فيه من كانت عنده حرية التفكير والتعبير فيختاره عن اختياره، بدون خوف من سلطة الدولة أو القبيلة، ثم يتمكنون بتلك النصرة والموالاة من البناء والتعمير، في ظل كيان متماسك يطمع الداخل فيه بمطامع مشروعة، فيأمن على نفسه وأهله وماله، ويتطلع إلى مستقبل يرفع من مستواه العلمي والفكري والمادي، حيث يجد واقعا جديدا يسعد فيه روحا وقلبا وماديا، وقد حصل ذلك بسبب تلك المناصرة والموالاة، وكل ذلك لا يتم الآن إلا بما تم به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم.


ومعلوم تاريخيا أن أهل الملل قبل الإسلام كانوا أعداء يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فاليهود في كل مكان طوائف متباعدة بناء على المذهب والمعتقد، والنصارى أكثر اختلافا وتشرذما، وتكفير بعضهم لبعض مشهور، والوثنيون من العرب وغيرهم يعادون الجميع ويزدريهم الجميع وهم قبائل شتى تثور بينهم الحروب لأتفه الأسباب، فلما رأوا جميعا هذا الدين يتناصر أهله على الذود عنه ويتعاونون على الحق فيه، ويصبرون عليه، انبعثت فيهم روح الحمية الدينية الكفرية التي جعلتهم صفا واحدا ضد هذا الدين رغم ما بينهم من أسباب العداوات التاريخية والدينية ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الكفر ملة واحدة) وذلك لما يرى بينهم من التجمع في وجه الحق، وتحقيق ذلك في خبر الله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) فهو خبر عن واقع لا يحتاج إلى تأكيد لوضوحه، وهو أمر ورثه أهل الملل مع كل رسالة ونبوة وحق يخالف ما عندهم وما هم عليه، حتى قال تعالى: (تشابهت قلوبهم) فلتشابه قلوبهم عبر التاريخ لا يملك الأخلاف منهم الحياد عما كان عليه الأسلاف.


وكل ما تخفت بين المسلمين روح النصرة والموالاة يحصل بينهم التفرق والتشرذم، ويتسلط عليهم الأعداء من الداخل والخارج، فيزيدونهم فسادا على فساد وفتنا على فتن، كما هو مشاهد بالعيان، ولذا قال تعالى محذرا المسلمين من سوء عاقبة التخلي عن واجب النصرة والموالاة في الحق: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) أي إن لم تعملوا على أنكم أولياء بعض تتناصرون في الدين ويقدر بعضكم بعضا ويصون بعضكم دماء بعض.. وتعملون على أن الكفار أيضا أولياء بعض يتألبون عليكم ويتجمعون ضدكم رغم تباعدهم في العقائد والمسافات، فإن لم تستحضروا العمل بما بين الله لكم، وقعتهم لا محالة في الفتنة والفساد الكبير، وخصوصا في زمن ضعفكم وقلة حيلتكم كما كان الأمر في عهد غربة الإسلام وبداية أمر الهجرة.


كل ذلك من حطب الفتنة والفساد الكبير، والواقع المعيش حاليا شاهد بضعف التناصر بين المسلمين، وشاهد حاضر على ازدياد الفتن والفساد الكبير بسبب ذلك. وليس أمام المسلمين من علاج لهذا الواقع المرير إلا التناصر والموالاة المبنية على قوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن في فتنة في الأرض وفساد كبير) وهذا مسؤولية الجميع وخصوصا العلماء وقادة الرأي والفكر السياسي والاجتماعي، ويتحمل الخطباء والإعلاميون النصيب الأكبر في التعريف بواجب التناصر بين المسلمين . قال ابن كثير في تفسيره: ومعنى قوله: (إلا تفعلوه تكن في فتنة في الأرض وفساد كبير) أي : (إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.