شعار قسم مدونات

التفريغ المادي والمعنوي لميدان التحرير

blogs - tahrir

لم يعد خافياً على أحد أن هناك جهد منظم لإعادة تشكيل الوعي المصري حتى يسقط تماماً أي قيمة معنوية أو إنسانية أو نضالية لثورة 25 يناير 2011. هذا الطرح يمكن أن يختبره بمزيد من الحرفية والعلمية خبراء علم الاجتماع والعلوم السياسية. أقدم هنا دلائل لأن هذا الجهد يتناول أيضاً إعادة تشكيل الوعي العمراني والمعماري والإدراك المكاني لقلب ثورة يناير: ميدان التحرير. وذلك من خلال التغيير المادي والتفتيت المكاني للبنية العمرانية للميدان.

تأمل المشاهد التالية وهي ترصد ماذا حدث وماذا يحدث لميدان التحرير في الثلاث سنوات الأخيرة. تأمل الجهد الهادف إلى محو معنوي ومادي لكل الفصول التي يوثقها الميدان والتي تتعلق بقيم النضال والثورة والمطالبة بأسمى قيم الانسانية: الحرية. وتأسيساً على ذلك يمكن توثيق الملامح والمقومات الاساسية لعملية تفريغ التحرير في النقاط التالية:

1- إخلاء مجمع التحرير: مبنى مجمع التحرير هو أحد أهم المباني التي تشكل الجدار العمراني لفضاء ميدان التحرير. وأصدر محافظ القاهرة قراراً بإخلائه قبل (30 يونيو 2016) نشر التصريح في "جريدة الوفد عدد الجمعة 1 يناير 2016". وأوضح القرار أن إخلاء مجمع التحرير يهدف إلى تخفيف الضغط عليه وعلى ميدان التحرير ومنطقة وسط البلد، على أن يتم نقل المصالح الحكومية المتواجدة به إلى المدن الجديدة، وإعادة أفرع المصالح التابعة للوزارات إلى مقر كل وزارة.
 

نجح النظام في استخدام بعض رموز النخبة المصرية من أجل إعادة صياغة معنى وقيمة ميدان التحرير. وقد تميز بعضهم في الانحياز الكامل لكل ما يدعم الثورة المضادة.

2- المتحف المصري وانتقاله إلى متحف جديد على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، وتحول المقر الحالي للمتحف وسياقه المحيط إلى ثكنة عسكرية أمنية طاردة لأهل المدينة.

3- تهميش مسجد عمر مكرم وإنهاء دوره الاجتماعي بعد أن كان أحد أهم أماكن التواصل للدوائر الرسمية خارج نطاق العمل وذلك باستخدامه الأشهر مقراً لسرادقات عزاء علية القوم وأصحاب المناصب.
 

4- هدم مبنى العلوم بالجامعة الأمريكية وإزالة حائط الثوار: قرار الجامعة الأمريكية بهدم مبنى التعليم المستمر والرياضيات بعد أن انتقلت الجامعة فعلياً إلى القاهرة الجديدة. حيث قررت الجامعة إزالة مبنى العلوم الكائن بحرمها بميدان التحرير وتحويل مكانه إلى حديقة خضراء في إطار الخطة العامة للدولة لتجميل ميدان التحرير "تصريح الجامعة المنشور يوم 20 سبتمبر 2015". أما إزالة الحائط الذي وثق عليه فنانو الثورة وجوه شهداء ثورة 25 يناير فقد اتسمت تبريرات الهدم بالسطحية والسذاجة فقد صرحت إدارة الجامعة أنه من أجل إزالة مبنى العلوم بحرم التحرير كان لابد من إزالة السور المتاخم له لدخول المعدات اللازمة ولإتمام عملية الهدم.

حالة سياق ميدان التحرير: عبقرية وانتقائية الهدم في المشهد العمراني
امتد الجهد المنظم لتفتيت بنية الميدان إلى سياقه المحيط وما يحتويه من رموز قد يؤدي الحفاظ عليها إلى إعادة مشهدية الثورة. تبرز في هذا السياق قصة مبنى المقر الرئيسي للحزب الوطني الحاكم في عصر حسني مبارك. عهد إلى محمود رياض أهم رواد الحداثة المصرية، بتصميم وتشييد مشروع إنشاء المقر الجديد لمبنى "بلدية القاهرة" في عام 1959، وبما يسمح للعاملين بها بترك أماكن عملهم وإقامتهم المؤقتة في قصر عابدين. وفي أثناء حكم السادات تحول المبنى إلى مقر الحزب الوطني الديموقراطي واستمر مقراً للحزب الحاكم في فترة مبارك. وتم حرق المبنى يوم 28 يناير عام 2011م باعتباره دلالة على عصر الظلم وانعدام الديمقراطية.
 

وبعد الثورة نوقشت أفكار للتعامل معه منها تحويله إلى متحف للثورة أو فندق عالمي. وفي 16 إبريل 2015 نشرت جريدة الأهرام خبر تكليف مجلس الوزراء محافظة القاهرة السير في إجراءات هدم مبنى الحزب الوطني مع إسناد أعمال الهدم للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، على أن يتم تحديد استخدامات الموقع الانتهاء بقرار من المجلس. وعلى الرغم من التقارير الرسمية للسلامة الهيكلية للمبنى، وتقارير القيمة التاريخية والرمزية للمبنى ودلالته بالنسبة لثورة 2011، تم هدم المبنى.
 

نادى بعض النقاد المعماريين، بمقترح لعمل مسابقة معمارية لتحديد الأسلوب الأمثل للتعامل مع المبنى. والواقع أن هذا التوجه إذا لم يواكبه إرادة وطرح فكري يتبنى أهمية الحفاظ على المبنى ثم تقديم المسابقة كأطروحات إبداعية لإعادة استخدامه بمعطيات تاريخه واللحظات الفاصلة التي عاصرها ثم النهاية الدرامية بحرقه يوم 28 يناير 2011 تعبيراً عن إسقاط أهم أدوات سيطرة النظام المباركي وهو الحزب الوطني.

إن قرار إنهاء مصير هذا المبنى يمكن تفسيره كامتداد واضح لسياسة تفريغ ميدان التحرير وسياقه. حيث أن المبنى يمثل فصل من تاريخ مصر النضالي والثوري يجب نسيانه من الذاكرة تبعاً لأطروحة النظام الحاكم. لأن المبنى فصل ثوري والثورة ضد مبادئ الاستقرار الزائف الذي سوقوا له بامتياز ولعقود طويلة. ولا يدرك هذا الفريق، بأطماعه السياسية المحدودة، أن الذاكرة الجمعية للشعوب تجسدها المباني العامة حتى لو شيدت في حقبات تغيرت أو تبدلت أو حتى ثار الناس عليها. وأن السعادة بالهدم هي سعادة الهزيمة وتزييف التاريخ.

لم يعد للتحرير قيمة، وحتى أساتذة العمارة والعمران وجهاز التنسيق الحضاري ونقابة المهندسين "شعبة العمارة" وجمعية المعماريين فكلهم مع سبق الإصرار والترصد نسوا أو تناسوا التحرير.

مشهد جمعة الأرض: إزاحة ميدان التحرير من منظومة الفراغ العام
نجح النظام في استخدام بعض رموز النخبة المصرية من أجل إعادة صياغة معنى وقيمة ميدان التحرير. وقد تميز بعضهم في الانحياز الكامل لكل ما يدعم الثورة المضادة، وخاصة من حيث إسقاط قيمة القضاء العام وخاصة ميدان التحرير. وخلافاً لمشهد اندفاع الثوار في 25 يناير 2011، فإن فعاليات التظاهرات التي أطلق عليها جمعة الأرض تقدم فهما إضافياً لاستراتيجية النظام ليس فقط في تشويه التحرير، ولكن إخراجه بالكامل من منظومة الفراغات العامة وفضاءات التعبير في مدينة القاهرة. استوعب النظام الدرس ومن ثم أغلق ميدان التحرير تماماً كما انتشرت ما يسمى باللجان الأمنية والحواجز والكمائن في كل الشوارع الرئيسية المؤدية إلى الميدان بالإضافة إلى الشوارع المؤثرة الأخرى في قلب العاصمة القاهرة.

كان التنازل عن الجزيرتين سبباً لنوع من الإجماع الشعبي المؤقت ومحور لقاء بين من المنقسمين. وكما أشار المراقبين فإن النظام تراجع عن النسق الذي استخدم في 25 يناير وهو هجوم عناصر الحزب الوطني والبلطجية على المعتصمين بالتحرير. حيث استبدل هذا النسق بالاعتداء على بدايات المظاهرات وأماكن انطلاقها من قبل بلطجية محترفين مأجورين. إذن أصبح التوجه هو الاعتداء الشعبي المزيف على بدايات التظاهرات والمنع النهائي للاقتراب من محيط ميدان التحرير البعيد والمغلق بأحكام تام.

اغتيال تصورات ورؤى مستقبل التحرير:
كانت فكرة إعادة صياغة فضاء الميدان قد بلورها قرار الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء، بطرح مسابقة عالمية لتصور معماري لتطوير ميدان التحرير والمنطقة المحيطة بها، على أن يصاحب عملية التطوير تصويت شعبي في كل مرحلة بما يضمن مشاركة مجتمعية حقيقية. انتهت كل هذه المبادرات مع تحول ثورة 25 يناير إلى نكسة 25 يناير بفعل جهد إعلامي منظم ومدعوم رسمياً.

لم يعد للتحرير قيمة، وحتى أساتذة العمارة والعمران وجهاز التنسيق الحضاري ونقابة المهندسين "شعبة العمارة" وجمعية المعماريين فكلهم مع سبق الإصرار والترصد نسوا أو تناسوا التحرير. كل الأطروحات الخاصة بمستقبل الميدان كفضاء عام للشعب وأرضاً لتمجيد شهداء يناير، صمتوا عنها جميعاً صمتاً مخجلاً. ولكن التاريخ يقول وفضاءات المدن حول العالم تصرخ: لا تموت الفضاءات العامة أبداً طالما الشعوب حية ثائرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.