شعار قسم مدونات

الحياة بالمفرق

blogs - سوشيال ميديا

"قبل أسبوع تقريبا، استغرقت وسائل التواصل الاجتماعي سجالات ناقدة لحوار إذاعي للإعلامي الفلسطيني مدير شبكة الجزيرة السابق السيد وضاح خنفر مع إحدى الإذاعات الأسترالية، انتقد فيه "حسب أحد المنشورات التي تناولت الموضوع" طريقة تفاوض الفلسطينيين مع الإسرائيليين واعتبرهم كمن يبحثون عن الطلاق بدل البحث عن زواج سعيد كما حدث في جنوب أفريقيا، فيما اعتُبَر من بعض المعلقين قياسا غير صحيح، وتنازلا عن الحقوق التاريخية، ولم يخل الأمر من المرور على عادة السوشيال ميديا على عناوين السقوط والبيع، وأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولا قداسة لشخص، و"جمب اخواتك" ولا خير فينا إن لم نقلها "كما جرت عادة إسلاميي ما بعد الثورات" إضافة إلى بعض عناوين المحفوظات الثابتة التي نغير عليها الأسماء والقضايا، دون أن نتغير نحن أو نتخيل أننا لا نتغير.

شغلني الموقف، وحفظت الحوار لأسمعه ولم أتمكن من ذلك إلى الآن، وبطبيعة الحال لم أكن لأعلق عليه هنا حتى إن سمعته، إذ لا يعنيني عادة التعليق مع المُجََزّآت خصوصا في القضايا غير ذات الاختصاص لي، لكن ما شغلني أكثر هو هذه "الحياة القَطّاعي أو المفرقة أو المجزأة" حسب المفردة المستعملة في النطاق الجغرافي للقارئ، التي تفرضها علينا السوشيال ميديا وتجعلنا ندور في فلكها، أيا كان موضعنا، أو مسارنا الذي نسير فيه.

ما سبق كان جزءا من تدوينة الأسبوع الماضي، ولم تنشر لتأخري في إرسالها، إلا أن تجدد الجدل هذا الأسبوع في قضية أخرى وجدتها لم تخرج عن نفس المبدأ وهو "الحياة المفرقة" فرأيت إعادة إرسالها، إذ إن التعامل المفرق مع الأحداث، والأشخاص والقضايا امتد حتى وصل إلى القيم نفسها، فبينما يدافع أفراد عن "النقد" مثلا وأنه لا أحد فوقه، تجدهم عند بعض النقد في مواقف أخرى يرون أن نقد النجوم نقد من قبيل الحسد، كما حملت ردود الفعل التي أعقبت تدوينة سابقة لأحد الزملاء هذا الأسبوع.

إن القضايا تبنى من الكلي إلى الجزئي.. من المساحات الواسعة التي تحيط العين فيها بمجمل الحكاية، إلى تفاصيل الحكاية، ومن خاض في التفاصيل قبل أن يدرك عقله مجمل الصورة أخطأ الإدراك.

ربما أصبح من لوازم الحياة أن نتخلص من استهلاكية الأفكار والقضايا التي فرضتها علينا وسائل التواصل الجديدة، فنعرف ماذا نريد أن نعرف، وعلى أي شيء نعلق، ولماذا؟ فكما كانت الاستهلاكية في السلع مغيرة لطبائع المجتمعات في العقود القليلة الماضية، محملة للأفراد تبعات وأعباء لم تكن موجودة في أسلافنا، وبالتالي حرمتنا هذه الاستهلاكية متعة أن نختار "ما نحتاج إليه" وبدلتها بمتع قصيرة كثيرة، منها "الحصول على ما لألأته الدعايات المبهرجة". ثم.. ماذا بقي من الإنسان بعد ذلك! إلا كائنا مُقَادًا يظن في نفسه الحرية، بل وقد يموت في سبيل هذه الحرية، وما هي في الحقيقة حرية، إنما هي محض "حملة إعلانات ناجحة".

قس على ذلك التعامل الإعلامي مع القضايا الكبرى، سياسية كانت أم عسكرية، ولو كان الأمر على مستوى الإعلاميين وحدهم لهان، بل هو على مستوى السياسيين أيضا إذ يغيب عن كثير من متصدري العمل السياسي العربي النظرة "الفكرية الشاملة" للقضايا التي يتصدرون فيها، وتتكون تصوراتهم تدريجيا مما يقع لهم من الحياة ومن الإعلام ومن بعض رفاقهم في دوائرهم، ثم تكون دوائر بعضها من بعض، ومن هذه الدوائر تولد النخب الواهية. 

حري بالمفكرين إذا، حري بكل من وضعتهم الظروف نجوم مجتمع "تخيلي" أو حقيقي يسمع لهم الناس ويتداولون آراءهم ألا يُغرقوا الناس في الجزئيات، ونحن بلا كليات جامعة. حري بهم ألا يلقوا نتائجهم للناس بقدر ما يرسمون لهم الطريق الذين وصلوا به هم لنتائجهم، وكلما زاد عدد المستقلين القادرين على الوصول وحدهم إلى نتائجهم كلما قوي المجتمع وأصبح آمنا من كل استغلال يستهدفه.

إن القيمة الأهم للمعرفة هي نسجها في رداء الحياة إما في متنه الساتر أو في زينته المجملة له، وحين نفشل في ذلك، فمعرفتنا محض ثرثرة لا طائل منها.

أعكف حاليا على تقييم أحد البرامج الحوارية العربية من خلال تحليل تعليقات الجمهور عليه، وتكاد أغلب التعليقات تصب في جهة واحدة: "البرنامج يعرض لكل وجهات النظر ولا يصل بنا لنتيجة، لا يخربنا ماذا نفعل، نرجو أن يكون هناك نتيجة؟!

إن القضايا تبنى في العقول من الكلي إلى الجزئي، من العام إلى الخاص، من المساحات الواسعة التي تحيط العين فيها بمجمل الحكاية، إلى تفاصيل الحكاية، ومن خاض في التفاصيل قبل أن يدرك عقله "مجمل" الصورة أخطأ الإدراك، كمن أمسك فيلا في الظلام، فلن يدرك إلا ما بين يديه، وما هي حقيقة.

ربما لا تتحمل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وحدها تبعة صناعة الحياة المجزأة، بل قبلها شيوع ثقافة الاهتمام بالأخبار اليومية حتى أصبحت العقول أوعية تسكب فيها الأخبار فلا تقدر على تجميعها وربطها، وتحت دعوى حرية المعرفة، وحق الإنسان في الاطلاع على ما يجري حوله، سلب حقيقة "المعرفة" حين دفن تحت ركام الأخبار الصحيحة الكثيرة.

إن القيمة الأهم للمعرفة هي نسجها في رداء الحياة إما في متنه الساتر أو في زينته المجملة له، وحين نفشل في ذلك، فمعرفتنا محض ثرثرة لا طائل منها، فلنستلهم من إرثنا في الحضارة الإسلامية النظرة للحياة كوحدة واحدة. وإن جزأناها تسهيلا للإحاطة كانت الأجزاء درجات تصل بنا إلى العرفان، لا جدران متاهة تحجب عنا ما ليس بيننا وبينه إلا مد ذراع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.