شعار قسم مدونات

المدينة والساحة والثورة: عن "ليبتزج" الألمانية

blogs-germany
مدينة ليبتزج الألمانية هي واحدة من أهم المدن التاريخية، وكانت المدينة الأولى في ألمانيا الشرقية وتشتهر بجامعتها العريقة المسماة على اسم المدينة: جامعة ليبتزج. المدينة أيضا لها تاريخ طويل مع عمالقة الموسيقى والأدب وأهمهم "باخ" و"مندلسون" و"جوته"، كما ولد بها الموسيقار الشهير "ريتشارد فاجنر". هي مدينة التوليفة المثالية: التاريخ والثقافة والعمارة والأدب والموسيقى معا في مدينة واحدة.

تقع المدينة في شرقي وسط ألمانيا، وتعتبر مركزًا تجاريًا وصناعيًا وثقافيًا. وقد تطورت المدينة إلى مركز تجاري مزدهر خلال العصور الوسطى لأنها تقع عند ملتقى العديد من الطرق التجارية الأوروبية. كما اشتهرت عالميا بمعارضها التجارية الكبرى، وكانت أحد أعظم المراكز الأدبية والموسيقية في أوروبا. وقد دُمر ما يقرب من ربع مباني المدينة خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م). وتعد المدينة مركزا لحياة ثقافية نشطة حيث توجد بها الكثير من المدارس والمعارض الفنية والمتاحف. ومن المراكز المعرفية في ليبتزج معهد للموسيقى الذي أسسه المؤلف الموسيقي فيليكس مندلسون عام 1843م، وكلية للفنون ومعهد للفنون التخطيطية وفنون الكتب.

كان بناء سور برلين الذي فصل شطري ألمانيا فصلا جغرافيا هو الجريمة الأكبر، لأن الفصل بالواقع كان عاطفيا وإنسانيا؛ حيث مزقت العائلات وقطعت الأوصال.

وكما وصفتها جريدة النيويورك تايمز، فهذه المدينة هي الحديقة الخلفية للعبقري الموسيقي باخ. مدينة مفعمة بنفحات الإبداع والفن، وبها تنوع من الفضاءات المتحفية أهمها متحف الفنون الجميلة ومتحف الفنون التطبيقية ومتحف تاريخ المدينة وأكاديمية الفنون البصرية ومتحف الآلات الموسيقية. ومن أجمل القيم الثقافية بالمدينة بيوت مبدعيها ومنهج الحفاظ عليها. تشعر بالموسيقى في كل مكان؛ فهي جزء عميق في نسيج شخصية المدينة. الموسيقى في الشوارع والميادين والجامعة والكنائس والمطاعم. المدينة هي مكان ملهم ولد وأبدع فيه مئات المؤلفين والموسيقيين.

ساحة التغيير للمدينة والدولة والعالم
اندهشت عندما وصلت إلى بهو فندقي في قلب المدينة حينما داعبتني موظفة الاستقبال قائلة: أنت بالقطع محظوظ، فحجرتك هي الوحيدة الباقية من الحجرات التي تتمتع بمنظر مباشر على الكنيسة والساحة اللتان غيرتا العالم! "تغيير العالم من هنا"، الجملة أذهلتني. فتحت بلهفة ستائر نافذة الحجرة العريضة الممتدة بطول الحائط لأرى كنيسة صغيرة الحجم على حدودها ساحة للمشاة ذات مقياس إنساني دافئ لم يمنع المطر المتساقط ولا درجة الحرارة التي انزلقت الى -5 تحت الصفر.

من امتلاءها بالحركة من كل الأعمار والألوان. الساحة ذات حدود معمارية واضحة من مجموعة من المباني التاريخية، وتلتف المباني حول الساحة المستطيلة لتكوين فراغ عمراني له عبق تاريخي رصين بينما ترتكز الكنيسة بأبراجها على ركن الفراغ مكونة منظومة بصرية ثرية. فضولي لم يسمح لي بمجرد التفكير في دقائق من الراحة بعد رحلة طويلة ونزلت أخطو خطواتي الأولى في الساحة ومازالت كلمات فتاة الاستقبال تتردد في عقلي: "الساحة التي غيرت العالم".

قصة تغيير ألمانيا وأوروبا والعالم مثلها مثل ثورات الربيع العربي، كان لها ايضا بداية بسيطة وغير متوقعة. فقد دعت مجموعة من الشباب الرافضين للمناخ السياسي الاستبدادي الديكتاتوري في المانيا الشرقية الى اجتماع لمناقشة مصير أمتهم. شباب كان يرفض استمرار التعذيب والموت والاعتقال اللانهائي لكل من تسول له نفسه أن يعترض أو يتمرد.

المدينة أيضا لها تاريخ طويل مع عمالقة الموسيقى والأدب وأهمهم "باخ" و"مندلسون" و"جوته"، كما ولد بها الموسيقار الشهير "ريتشارد فاجنر".

كان بناء سور برلين الذي فصل شطري ألمانيا فصلا جغرافيا هو الجريمة الأكبر، لأن الفصل بالواقع كان عاطفيا وإنسانيا؛ حيث مزقت العائلات وقطعت الأوصال. لم تتحمل الجماعة الشابة الثائرة في مدينة ليبتزج المزيد من هذا القهر، ودعت الى اجتماع بهدف توحيد الصفوف وبدء مشروع متماسك للمعارضة، ولأهمية مركزية المكان وقع اختيارهم على كنيسة القديس نيكولاس ليكون مقرا للاجتماع.

عندما حانت ساعة اللقاء لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أكثر من بضعة مئات، فكيف يتدفق الشباب إلى مكان يعلمون جيدا كيف يتعامل وحوش البوليس السري والعلني مع التجمعات المعارضة. يعلمون أيضا وجود كاميرات المراقبة على كل المباني العامة والساحات التي تحذر قيادات البوليس فتعطي الأوامر بالمهاجمة والاعتقال الوحشي في دقائق. المذهل مع كل هذا أنه في خلال ساعات كانت الكنيسة كاملة العدد يتجاوز من فيها الألف شاب وشابة.

وكانت المفاجأة الأكبر للمنظمين عندما أدركوا أن الضوضاء القادمة من الخارج ليست حشود قوات البوليس ولكنها عشرات الآلاف من الشباب الألماني الثائر، وخاصة طلبة جامعة ليبتزج يملؤون الساحة بهتافاتهم حاملين الشعارات والمطالب التي كتبت بعجل وبخط اليد. الكنيسة أصبحت رمزا وطنيا في كل ألمانيا منذ احتضانها لما عرف باسم "مظاهرات الاثنين"، تلك المظاهرات التي انطلقت من الكنيسة التي أصبحت المركز للمقاومة السلمية ضد الحكم الشيوعي المستبد.

التجول في الساحة الصغيرة إنسانية المقياس يشعرك بالاتساع والرحبة وأنت تستدعي الأحداث أمام عينيك وتبلغ قمة الرمزية في لوحة نحاسية مثبتة على الأرض الحجرية وقد طبع عليها آثار أقدام كبيرة وصغيرة، طفولية وبالغة، رجالية ونسائية، وكأن المغزى أن تصل إليك كزائر رسالة واضحة: نعم هذه ثورتنا وكلنا شاركنا فيها. وعندما وصلت فورة التفاعل في الكنيسة والساحة إلى اقصاها، قرر المنظمون التحرك من ساحة كنيسة القديس نيكولاس إلى ساحة "أغوستس"، الساحة الرئيسية بالمدينة والتي تطل عليها جامعة ليبتزج.

متحف الثورة
ملتقى التاريخ المعاصر في المدينة هو مكان للذكريات الحية. ومعرض وعرض توثيقي، ومركز معلومات مخصص لتاريخ تقسيم ألمانيا ثم استعادتها لوحدتها. ويطرح توثيق لمفاهيم الديكتاتورية وفكرة المقاومة وخاصة في ألمانيا الشرقية، كما يوثق الملتقي النظام القمعي الذي أدى إلى عصيان مدني وثورة سلمية عام 1989.

عندما حانت ساعة اللقاء لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أكثر من بضعة مئات، فكيف يتدفق الشباب إلى مكان يعلمون جيدا كيف يتعامل وحوش البوليس السري والعلني مع التجمعات المعارضة.

في المسافة الواقعة من ساحة كنيسة القديس نيكولاس إلى ساحة أغوستس يقع متحف الثورة وهو سلسلة من الفراغات المتصلة التي أعد لها سيناريو متحفي مثير يحكي قصة الثورة من لحظة ميلادها في 4 سبتمبر 1989 داخل الكنيسة إلى اللحظة التاريخية التي مهدت لحقبة جديدة في تاريخ البشرية، وهي سقوط حائط برلين وعجز الشرطة الألمانية عن إيقاف سيل المواطنين المندفعين إلى الشطر الغربي لمدينة برلين تنفسا للحرية واقترابا من أقارب وأصدقاء فرقتهم الأحجار العالية والأسلاك الشائكة التي مزقت أجساد بعض ممن تجرأ على محاولة العبور سابقا.
 

صيانة التاريخ وصياغة المستقبل في ليبتزج
بعد هدم سور برلين الفاصل عام 1989 وتوحد شطري ألمانيا عام 1990، تدفقت الموارد المالية من الشطر الغربي الغني لمساعدة الشطر الشرقي الذي عانى لعقود طويلة. ومثلت مدينة ليبزح واحدة من أهم قنوات صياغة مستقبل جديد اعتمد على صيانة التاريخ والحفاظ على مقوماته. فالمدينة التي تشتهر بقيمتها السياسية والاقتصادية والثقافية يجب أن تتطور دون أن تفقد هذه القيم التي لا تعوض والتي تشكل الملمح الرئيسي لشخصيتها. ومن هذا المنطلق تمت صياغة برنامج لإعادة إحياء المدينة يحافظ على رصيدها المعماري والعمراني، وفي الوقت ذاته يطور جامعتها ومراكزها البحثية والعلمية.

منذ الوحدة عام 1990 وحتى الآن إطار زمني بلغ فقط 25 عاما، ولكن وضوح الرؤية ووجود الرغبة يذلل كل الصعاب؛ فبالفعل في تلك الفترة الزمنية المحدودة أعيد بناء وترميم وإعادة تأهيل كل المباني التاريخية بالمدينة، وتم إحياء القلب التاريخي لها وخاصة منطقة كنيسة القديس نيكولاس وساحتها وما حولها لتتحول جميعها إلى منطقة للمشاة تتنوع الأنشطة فيها بين التجاري والترفيهي والثقافي والفني، وتذكر الجميع بأنها المدينة والساحة وقلوب وعقول الشباب الذي غير العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.