شعار قسم مدونات

تكامل لا تصادم

blogs - quran
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وكرمه على سائر المخلوقات فقال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا". وهذا التكريم الإلهي للإنسان تكريم لكل جوانب النفس الإنسانية، من روح وعقل وجسد وعاطفة، والشريعة الإسلامية كما اهتمت بالنفس اهتماما عاما اهتمت بالعقل اهتماما خاصا، وجاءت لتحافظ عليه محافظة حسية ومعنوية، وجعلته من مقاصدها العظيمة وغاياتها الكبرى التي لا تستقيم الحياة إلا بها.

والعقل هبة ربانية ونعمة من نعم الله تعالى على الإنسان، أعلى الله تعالى شأنه وعظم قدره، وتناولته نصوص القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة آية تصريحا وتلميحا، بل بين القرآن الكريم أن من أسباب عذاب أهل الجحيم يوم القيامة عبادتهم لأسلافهم وجمودهم على نمط الحياة التي اعتادوها.. "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ". 

إن التفكير الذي ينتهي إلى غير شيء هو تفكير قاصر، إذ ليس ما وراء التفكير عدما، وذلك أن الإسلام كما يوجب التفكير فإن التفكير يوجب الإسلام ويقود صاحبه إلى الله يقينا.

والعقل المقصود في القرآن هو العقل المقابل للجمود، الرافض للخرافة، الباحث عن اليقين، وصاحبه ذلك الشخص الذي يستخدم فكره ووعيه في الوصول إلى النافع والمفيد له ولأمته، ويؤسس قناعاته على الحجة والبرهان، إذا لا قيمة في الإسلام لأي فكرة جوفاء لم تقم على حجة مقنعة ودليل قاطع.. "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ"‏. فالإسلام مبني على الإقناع لا الإكراه، وقائم على الحجة البالغة لا على الوهم والشك.

من المؤكد أن الأديب العقاد لما عنون كتابه في التفكير بقوله: "التفكير فريضة شرعية"، لم يأت بهذه التسمية من فراغ بل أكدها بسرد عدد من آيات القرآن الداعية إلى التفكير، وبين في كتابه هذا معوقات التفكير المتمثلة في عبادة العرف والخضوع المطلق للسلطة الدينية أو الدنيوية، وهذه المعوقات الثلاث استوحاها العقاد من نصوص القرآن الكريم وعقب عليها بقوله: (وصفوة القول أن الإسلام لا يعذر العقل الذي ينزل عن حق الإنسان رهبة للقوة أو استسلاما للخديعة، ولا حدود لذلك إلا حدود الطاقة البشرية عامة كما تقوم به الأمم) ويخلص فيه إلى نتيجة مهمة، وهي أن التفكير الذي ينتهي إلى غير شيء هو تفكير قاصر، إذ ليس ما وراء التفكير عدما، وذلك أن الإسلام كما يوجب التفكير فإن التفكير يوجب الإسلام ويقود صاحبه إلى الله يقينا.

وهذا لا يعني البحث عن الشبهات القديمة والحديثة، وتصيد أخطاء البشر وتحميل الدين خطأ المتدينين، فهذا علاج للداء بداء أسوأ منه، وفرار من المسؤولية إلى أعذار واهية، وإنما المطلوب البحث عن اليقين التام حتى لا يقع المسلم ضحية شبهة عارضة، أو يخسر عمره في وهم باطل، أو يضيع حياته في ضلال مقنع، ذلك أن الإيمان ليس تقليدا، والوصول إلى اليقين يحتاج إلى التحرر من الهوى، وعدم التقوقع على رأي واحد، وترك التقليد الأعمى، والتشمير عن ساعد الجد، والبحث والاطلاع والمقارنة، والاحتراز من السير خلف القطيع بلا حجة ولا برهان.

وكما اهتمت الشريعة الإسلامية بالعقل اهتمت بالروح، وأولتها جانبا مهما وأعلت من شأنها، وهيأت الأسباب والوسائل التي تعمل على صقلها وبنائها بناء إيمانيا يسعد به الإنسان في الدارين. فكانت الفرائض والواجبات وسيلة من وسائل تهذيب الروح وتزكيتها، وتليها المحافظة على السنن والمندوبات والإكثار منها حتى يصل المسلم إلى ربه ويتعلق قلبه به فيحبه ربه ويدنيه ويقربه ويؤيه، "ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُههُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه".. أخرجه البخاري.

ومما يسمو بالروح ويعلي قدرها، الوقوف مع آيات القرآن قراءة وتدبرا وتأملا وتفكرا، فهو كتاب هداية ورحمة وروح وموعظة، ولا ينتفع به إلا من عاشوا معه بعقولهم وتعرفوا على حكمه وفوائده وأحكامه… كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.
 

إن التوازن بين الروح والعقل، والتوافق والتكامل بينهما مطلب شرعي وضروة بشرية، تحفظ الشخصية المسلمة من الإفراط في جانب أوالتفريط في جانب آخر، وتحد من الفصام النكد بين العقل والقلب.

ومما يسمو بالروح ويصقلها ذكر الله تعالى وتمجيده وتعظيمه، ولذا فإن الله تعالى قرن الذكر بالفكر والتفكر في قوله تعالى: إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وليس ثمة تعارض بين الاهتمام بالروح والاهتمام بالعقل، إلا ما كان من تعارض وهمي، وهوة مصطنعة عانى منها الفكر الإسلامي ولا يزال، ولعل إسهامات مدرسة التجديد الحديثة أعادت للروح بعض أهميتها وللعقل بعض دوره، ومن أعلام هذه المدرسة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، الذي كان منقذا ومجددا وداعية توفيق بين الفكر والروح وكان (واحداً من أعلام العلماء الذين عملوا على إنقاذ الثقافة الإسلامية من ذلك الفصام المنكر بين العقل والقلب، ذلك الفصام الذي حَول العبادات إلى أشكال جَفَّت فيها الروحانية، وحوَّل القلوب إلى بدع وخرافات) كما يذكر ذلك د. محمد عمارة.

وخلاصة القول أن التوازن بين الروح والعقل، والتوافق والتكامل بينهما مطلب شرعي وضروة بشرية، تحفظ الشخصية المسلمة من الإفراط في جانب أوالتفريط في جانب آخر، وتحد من الفصام النكد بين العقل والقلب، والصدام المصطنع بين الفكر والروح، وتوجه الجهد لكلا الجانبين في آن واحد، حتى لا يهتم المسلم بفكره ويهمل روحه، فيتضخم الفكر على حساب الروح ويعيش خواء لا مثيل له وعقلا لا قلب له وفكرا بلا روح، أو ينشغل بالروح على حساب الفكر، فيعيش قلبا بلا عقل وروحا بلا فكر ويستدعي لشعائره طقوسا ما أنزل الله بها من سلطان، والموفق من يجمع بين صفاء الروح وصفاء الفكر في آن واحد، لأنه لا غنى لمسلم عنهما، وكل واحد منهما مكمل للآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.