شعار قسم مدونات

أربعة دروس تعلمتها من سقوط بغداد

blogs - baghdad

التاسع من إبريل من عام 2003، تناثرت دفاتري وأقلامي على طاولة غرفة الجلوس، كنت في الصف السادس الابتدائي ورحت أحل واجب اللغة الإنجليزية بصمت وتركيز عميق بالرغم من شعاع الشمس الربيعية الذي كان يلاحقني من خلف الستارة كلما أملت رأسي بعيداً عنه.

وكأن هذا الشعاع كان يريد تنبيهي بأننا لا نستطيع أن نتجاهل ما يدور من حولنا مهما أشحنا بعيداً بوجوهنا، بالرغم من انهماكي في حل واجبي إلا أنني أحسست بغريزة فطرية أن خطباً جللاً قد حدث، فقد خيم صمت ثقيل من حولي، كان الجميع كتماثيل شمعية، فقد كانت الصدمة أكبر من أن يعبر عنها بكلمات، لذلك لم يقابل الخبر الذي كانت تومض به شاشة التلفاز من أقصى غرفة الجلوس سوى بتنفس بطيء علت معه الصدور المثقلة بنصيبها من الحزن وهبطت بانتظام، وضعت قلمي وقرأت الخبر العاجل الذي كتب بخط عريض لا تخطئه عين: سقطت بغداد!
 

أحسست بأن هواء الغرفة قد أصبح كثيفاً، رمشت أكثر من مرة، فتلك كانت عادتي عندما كنت صغيراً كلما أردت أن أقاوم حزني، وأن أقطع الطريق على أي دمعة قد تفضح مشاعري، تسمرت في مكاني لساعات وأنا أسمع المحللين الذين لم أفهم كثيراً مما كانوا يقولونه، لكنني كنت أفهم شيئاً واحداً بالرغم من صغر سني وقتها وهو أنه لا مكان للغزاة على أرضنا، الألم كان كبيراً وإلى اليوم لازلت أذكر منظر الدبابات وهي تشوه وجه بغداد الجميل، زاحفة ومزمجرة بصوت ينذر بالشؤم الذي ابتدأ به القرن الجديد.
 

قبل عدة أيام ومع اقتراب الذكرى السنوية لسقوط بغداد كنت أخوض نقاشاً مع أحد الأصدقاء عن أهم الأحداث التي شهدها القرن الحادي والعشرين، فأجبت بلا تردد بأن غزو العراق وسقوط بغداد كان أهم حدث بلا شك فكل ما حدث قبله أدى إليه كما كان هو السبب المباشر أو غير المباشر لكل ما حدث من بعده، لقد كانت هذه الحرب القاسية والظالمة درساً كان علينا أن نتعلم منه بعد كل هذه الأنهار من الدماء، وسأحاول أن ألخص أربعااً من أهم الدروس التي تعلمتها:
 

1- المعرفة الحقيقية لا تقدم في الفضائيات.

"الطغاة يجلبون الغزاة" هذه الجملة تختصر تاريخنا الحافل بالدماء عبر قرون، ولو أننا عملنا بها لجنبنا نفسنا الكثير من الويلات وإن ما يبعث على الأسى أن أنهار الدماء التي سالت في العراق ما كان لها أن تجنب بلداناً عربية أخرى المصير نفسه!

مع الطفرة التي شهدها عالمنا، تعزز إحساسنا الكاذب بالمعرفة، فمئات المحطات الفضائية وآلاف المواقع الإلكترونية تتسابق لتقدم لمتابعيها الأخبار، هكذا نغرق في سيل جارف من المعلومات التي لا يتسنى لنا حتى التأكد من صحتها، والمفارقة أن هذا الانتشار الكثيف بات يشوش إدراكنا وصرنا عرضة أكثر للخداع، ومن ثم دخل الإعلام نفسه كوسيلة فاعلة من وسائل جروب الجيل الرابع، ولعل غزو العراق يقدم لنا أكثر الأمثلة وضوحاً، فلا تزال أصداء أكبر أكذوبة خدع بها العالم كله في القرن الجديد وهي أكذوبة أسلحة الدمار الشمال التي أستبيح العراق وقتل أبناؤه وترملت نساؤه بسببها، لا زالت تتردد في فالعالم، هكذا وجد العالم الذي تم حشده بناء على أوهام تم تسويقها وجد نفسه أمام مشهد سحق العراق بسبب كذبة لا أساس لها من الصحة.
 

2- الصراع مع الغرب اقتصادي وليس أيدولوجياً
لقد كان منظر الجنود الأمريكيين وهم يسارعون لحماية المنشآت النفطية وترك المتاحف العراقية التي تزخر بآثار أقدم حضارات الأرض عرضة للنهب أبلغ من كل الكلام، باختصار فلقد أصبحت ثرواتنا لعنة علينا وموقعنا المتميز الذي يربط ثلاث قارات أصبح حلبة تتصارع الأمم لبسط نفوذها وسيادتها عليها ومن يخرج عن عصا الطاعة فمصيره الدمار ولا شيء سواه، الكثير يظنون أن الحرب حرب على الإسلام لكننا إذا ما نظرنا للأمر نظرة فاحصة لتبين لنا أن الأمر لا يعدو عن كونه حرب مصالح خالصة، فالنظام الرأسمالي المتوحش يتغذى على مواردنا وهو أيضاً يصطدم بجوهر عقيدتنا التي ترفض هذا النظام الاقتصادي الهرمي وأخيراً فإن هذا النظام المتهالك الذي يغرق في الأزمات منذ عقود يلجأ إلى تسويق الحروب لإنعاشه وإطالة عمره، هكذا تصبح بلداننا ساحات لهذه المعارك التي تغرق بالأطنان من الأسلحة في كل عام فلا غرابة أن بلداننا تتصدر سوق الأسلحة بالرغم من الفقر المدقع الذي تعيشه شعوبها.
 

3- العرب لا يتعلمون الدرس أبداً
لقد قال ابن خلدون قبل عدة قرون "الطغاة يجلبون الغزاة" وهذه الجملة تختصر تاريخنا الحافل بالدماء عبر قرون، ولو أننا عملنا بها لجنبنا نفسنا الكثير من الويلات التي دفعنا ولا زلنا ندفع ثمنها، وإن ما يبعث على الأسى أن أنهار الدماء التي سالت في العراق وأرواح مئات الآلاف من أبنائه التي أزهقت ما كان لها أن تجنب بلداناً عربية أخرى المصير نفسه، وهكذا تغرق الآن ليبيا في حرب أهلية، أما سوريا أكثر جراحنا نزفاً فقد أصبحت مسرحاً لحرب باردة جديدة لا تحتاج سوى عود ثقاب لتشتعل حرب عالمية ثالثة، هكذا تختصر سذاجتنا وعبثية واقعنا بمشهد الحرب التي لا تنطفأ ولكنها تنتقل من بلد إلى آخر حيث الدم دمنا والأرض أرضنا لكن بسلاح ليس لنا.
 

4- الحرب الدينية أخطر من أن يتم زج الشعوب في أتونها
اليوم تقرع الطبول وتحشد الشعوب في مواجهة سنة شيعية، وهي إن حدثت فإنها لن تبقي ولن تذر، وستكون نكبة لا طاقة لنا بها، ألم يكن مشهد الحرب الطائفية التي تلت سقوط بغداد مروعاً، إن الذين يروجون لهذه الحرب لا يخدمون أمتهم كما يظنون بل إنهم يصبون زيتاً على النار المشتعلة فيها، والقوى العظمى يحلو لها أن تسوق هذا الخوف وتضخمه، فهي أكبر المستفيدين من هذه الحرب التي لن تزيد إلا من وهننا وضعفنا، والمفارقة أن من يدعون إليها هم نفسهم الذين سهلوا سقطوا بغداد واحتلالها، وهاهم يريدون تصحيح خطأهم بشن حرب أخرى، هكذا يكتب علينا أن نغرق في دوامة الحروب التي لا تنتهي ذلك أن البوصلة قد حادت عن هدفها منذ زمن بعيد.

ولعل مقالتي هذه تكون بالنسبة لك كشعاع الشمس الذي أيقظني قبل أربعة عشر عاماً، فلا تشح بوجهك بعيداً عنها، وتذكر أننا أمة لا تموت قضاياها بالتقادم، وبأننا شعوب حية تقوم بعد سقوطها ولو بعد حين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.