شعار قسم مدونات

لماذا يحب معماري شهر رمضان؟

مدونات - رمضان بمصر
"رمضان كريم" جملة قصيرة ولكن ما إن تُذكر حتى تتدفق أمام الأعين ذكريات دافئة عن كل ما يحمله هذا الشهر الفضيل من أجواء روحانية واحتفالية نتوق إليها كل عام. بالنسبة لي شخصيا فعلى الرغم من أنني اشترك مع كل أفراد المجتمع العربي والمسلم في المكانة الخاصة التي يحظاها الشهر الكريم في عقولنا وقلوبنا والمشاعر الروحانية المقدسة التي تكتنف أيامه ولياليه إلا أنني أكن لهذا الشهر مكانة خاصة لأنه لم يثريني فقط روحانيا ولكنه كان أحد الأسباب القوية لحبي للعمارة والتصميم والعمران وتفرغي لدراستها حتى حصولي على الدكتوراه.

في طفولتي سكنت مع عائلتي في حي الدقي وهو حي يتميز بإطلالة على طرفي النقيض في تركيبة المجتمع المصري فعلى أحد أطرافه قصور وحدائق إقطاعيين ما قبل ثورة 1952 وعلى طرفه الآخر حي الدقي القديم ريفي الطابع الذي تشكل من روح العائلات التي قدمت من قرى مصر إلى القاهرة العاصمة أملا في حياة أرغد وأفضل. هذه الإطلالة المزدوجة مكنتني منذ صغري من إدراك علاقة الإنسان بالمكان وهي الخطوة الأولى في فهم عمليات العمارة والعمران. وكنت في أيام شهر رمضان الكريم أتجول مع أصدقائي نكتشف الأماكن ونختبر الوجوه وتستوقفنا مشاهد الخدم والطباخين في حديقة قصر أحد الإقطاعيين وهي تعد وليمة فخمة كما نتوقف أمام بائع العرقسوس بزيه الجميل وأوانيه النحاسية البراقة وهو يتجول داخل حواري الحي القديم يتقافز حوله الأطفال وتستدعيه السيدات من النوافذ ليملأ زجاجات تروي عطش الصائمين، وأكثر ما أذهلني أني كنت أرى في تلك الأحياء الريفية الشعبية ليالي رمضانية أكثر دفئا وروحانية.

أحببت في طفولتي كرم وحفاوة وخيرات الشهر الكريم وموائد الطعام التي يتجمع حولها الجميع حتى الغرباء وما يزال مذاق التمر والحليب على لساني نتناوله ثم نتوجه إلى صلاة المغرب ونعود لنبدأ معركة حامية الوطيس نتعامل فيها مع ما لذ وطاب من الأطعمة المصرية.

من أجمل ذكرياتي عن رمضان التنافس بين الأحياء والشوارع لتجميلها بما يلائم أجواء الشهر الاحتفالية المباركة. بل إنني أتذكر عقد مسابقات بين الشوارع لاختيار أكثرها جمالا، وكانت الفكرة تنتشر في الحي كله بل في معظم شوارع القاهرة الكبرى وتتشكل فرق الشباب والأطفال وتبدع في استخدام الأوراق الملونة المجلات والجرائد القديمة لقصها إلى تشكيلات زخرفية تعلق على حبال ملونة بعرض الشارع أو الحارة على مسافات متكررة. ثم يلي تلك الخطوة، توسلات إلى أهل الشارع الطيبين لمدنا بوصلات كهربائية من نوافذهم وشرفاتهم يتدلى منها اللمبات الكهربائية الملونة التي تضفي جو من البهجة والفرحة وخاصة عندما تضاء كلها مع رفع الأذان لصلاة المغرب بعد انطلاق مدفع الإفطار.

أما أنا فكان تخصصي تصميم وبناء الفانوس العملاق الذي يعلق في منتصف الشارع وهو القطعة الرئيسية التي تكثف البهجة والفرح لدى الجميع وتؤكد هوية المجتمع وتواصله مع تراثه وتقاليده، وكنت استخدم لتنفيذ الفانوس أعواد البوص لخفة وزنها وسهولة التشكيل بها ثم أوراق السلوفان الملونة بألوان براقة زاهية لتغليف هيكل الفانوس وجوانبه المتعددة بينما تتدلى الشرائط الملونة من قاعدته السفلية التي يتوسطها مصباح كهربائي. ويتم تعليق الفانوس يوم استطلاع الهلال وبعد ثبوت الرؤية يضاء الفانوس فيحدث جماعي احتفالي يضم شمل الجيران والأهل والأصدقاء.

أحببت في طفولتي كرم وحفاوة وخيرات الشهر الكريم وموائد الطعام التي يتجمع حولها الجميع حتى الغرباء وما يزال مذاق التمر والحليب على لساني نتناوله ثم نتوجه إلى صلاة المغرب ونعود لنبدأ معركة حامية الوطيس نتعامل فيها مع ما لذ وطاب من الأطعمة المصرية الشهية وخاصة صينية الفول التي لا يستغنى عنها على أي مائدة رمضانية في مصر. كان المسحراتي أيضا وهو الشيخ المسئول عن دعوتنا الاستيقاظ فجرا لتناول السحور وتأدية صلاة الفجر، يبهرني بصوته الجميل وقدرته على تذكر أسماء رجال العائلات وأطفالهم وترديدها وهو يمر على كل بيت. ولا يمكن أن أنسى عندما طلب منه أبي أطال الله في عمره أن يذكر اسمي في جولته وشعرت بسعادة غامرة وهو يردد "أصحى يا علي وحد الدايم" ولم أستطع النوم في تلك الليلة من فرط السعادة التي استمرت لأيام متواصلة.

تأملات معمارية في المسألة الرمضانية
أيام رمضان أيضا شهدت زيارات متعددة لواحدة من أجمل بقع القاهرة في رمضان وهي قاهرة المعز الإسلامية حيث مسجدي الحسين -رضي الله عنه- والأزهر وحواري القاهرة القديمة ومساجدها ووكالاتها ومقاهيها وخاصة الفيشاوي المقهى الشهير. هذه المنطقة لا تنام في رمضان وتشعر فيها بالعبق الرمضاني مكثفا وغير قابل للمقارنة مع أي مكان آخر في مصر كلها. وبالنسبة لي شخصيا فان زيارة القاهرة الإسلامية كانت أكبر درس طور تذوقي وإحساسي بجمال العمارة والعمران الذي أنتجته المجتمعات المسلمة وجمعت فيه ما بين الجمال البصري والتشكيلي والأجواء الروحانية المقدسة.

في الخليج، فان أجمل ما لفت نظري الملمح الحضاري الاجتماعي الراقي الذي ينشط نشاطاً مبهراً في رمضان وهو المجالس التي يتجمع بها الأصدقاء والأقرباء والضيوف من رجال الدين والثقافة والأدب والصحافة.

أبهرتني المشربيات والمآذن وأفنية المساجد والأسبلة والزخارف الخشبية والنباتية بل إنني بدأت أتذوق جماليات الخط العربي بسبب الليالي الرمضانية في شارع المعز. أحببت أيضا بصورة خاصة صلاة الفجر وخاصة عندما وافقت والدتي رحمها الله على أن أذهب بمفردي إلى المسجد وما أزال أذكر سماحة وجه شيخنا الكريم وهو يحفزنا على أن يكون شهر رمضان شهر الإنتاج والتميز وليس للكسل والنوم وقتل الوقت. وهذا الدرس بصفة خاصة استوعبته جيدا وأثر في حياتي تأثيرا جوهريا وأفادني فوائد جمة في مساري المهني والأكاديمي، بل إنني أدَعي أن شهر رمضان كان دائما من أكثر شهور العام إنتاجية في كل مجالات عملي وخاصة البحثية والأكاديمية.

لاحقاً وبسبب ظروف الدراسة، انتقلت للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي آخر صلاة جمعة قبل قدوم الشهر الفضيل أبديت حزني لزميل مصري كان يدرس معي وقلت له سنستقبل الشهر الفضيل في أجواء الغربة ونفتقد كل ما في بلادنا من روحانيات ومشاعر دافئة وجو أسري وعائلي جميل. وأدهشني قوله طالبا مني الانتظار حتى قدوم الشهر فقد تغير رأيك. وكان محقا فكل ليلة من ليالي رمضان في مدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا التي كنت أعيش بها، كانت احتفالية عربية مسلمة تبدأ من صلاة المغرب وتستمر حتى صلاة الفجر يلتقي فيها كل الطلاب والباحثين وعائلاتهم وأطفالهم ومعهم المأكولات والمشروبات الرمضانية وتقاليد بلادهم ونتفاعل يوميا روحانيا واجتماعيا وحتى أكاديميا ومعرفيا ولا ننسى تذوق أطايب الطعام التي تعكس موزاييك الثقافة العربية من المغرب إلى الجزيرة العربية، وحتى إخواننا من ماليزيا وإندونيسيا وكل بقعة بها روح وسماحة الدين الحنيف، وتتلون المائدة الممتدة بتبولة الشام وكسكسي المغرب ومكبوس الخليج ويتدخل القدر ليجعل الفول المصري بالخلطة الشهيرة دائما محل إعجاب الجميع.

أما في الخليج الذي امضيت فيه آخر ثلاثة عشر عاما من حياتي عملت فيها أستاذ جامعيا في كل من البحرين وقطر، فان أجمل ما لفت نظري الملمح الحضاري الاجتماعي الراقي الذي ينشط نشاطاً مبهراً في رمضان وهو المجالس التي يتجمع بها الأصدقاء والأقرباء والضيوف من رجال الدين والثقافة والأدب والصحافة حيث يتحول اللقاء إلى ندوة معرفية ثرية عادة ما تنتهي بغبقة (وليمة) طيبة المذاق من أطباق الخليج الشهية وخاصة الأسماك التي يبرع في طبخها أهل الخليج الكرماء وتنتهي الليلة بحصول الزائر على متعة المعرفة ولذة الطعام الشهي وصحبة طيبة أدامها الله على أهل الخليج وكل الأمة العربية والإسلامية. كانت هذه بعض ذكرياتي وتأملاتي في شهر رمضان الكريم الذي أدعو الله ان يعود عليكم جميعا بالخير والبركات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.