شعار قسم مدونات

لماذا نكره الجزيرة؟

مدونات - الجزيرة
من منا يستطيع أن ينسى مشهد المواطن التونسي عبد الناصر لعويني يوم 14 يناير 2011 وهو يتحرك وحيدا في ظلام شارع الحبيب بورقيبة صارخاً "بن علي هرب.. تحيا تونس الحرة.. تحيا تونس العظيمة.. المجد للشهداء.. المجرم هرب.. السفاح هرب". حقاً لقد شاهدنا المشهد على قناة الجزيرة، وبكينا وانطلقت شرارة الربيع العربي. ثم انتقلت الثورة إلى مصر واستمرت الجزيرة مُحملة بمسئولية عرض حقيقة ما يجري في فضاءات القاهرة.

كانت دموعي تنهمر يوميا، مثل الملايين، وانا أشاهد قناة الجزيرة في الفترة من ٢٥ يناير إلى ١١ فبراير ٢٠١١. صدق الصورة التي نقلت من التحرير وتحملت بسببه الجزيرة كم رهيب من التنكيل والإرهاب من فتوات أمن الدولة وعصابة البلطجية، كان بالقطع غير مسبوق. كنت أتحول عن قناة الجزيرة من وقت لآخر لاستطلاع التلفزيون المصري الرسمي وكان يصدمني استضافة صحفيين وممثلين ولاعبي كرة يتحدثون عن القلة المُضللة المُخربة في التحرير. في ذات الوقت الذي كانت قناة الجزيرة تناضل من أجل بث تدفق الشباب إلى ميدان التحرير كان التلفزيون الرسمي في مصر يستضيف ممثلة تعبر عن ألمها العميق بسبب صعوبة الحصول على كيلو من اللحوم المشوية أو فطيرة البيتزا الإيطالية الفاخرة بسبب المتظاهرين المخربين.

هل نسيتم أمثال سماح أنور وآثار الحكيم وحسام حسن وغيرهم وهم يقولون حاصروهم في التحرير وامنعوا عنهم الأكل والمياه وحتى أشعلوا فيهم النار؟ هل نسيتم كاميرا التلفزيون المصري مثبتة على صفحة النيل ومركب شراعي يتهادى بينما المذيعة تقول مصر بكل خير والرئيس مبارك أب لكل المصريين قبل أن يكون رئيس؟ هل نسيتم استضافة سيدة مجهولة عُرفت بأنها الشيخة ماجدة، قالت أنها معالجة بالقرآن، وهي تصرح بأن التحرير لا يزيد من به عن بضعة عشرات وبعض الإيرانيين والحمساويين والإرهابيين جاؤوا بقوارب من المطاط؟

اسأل صديقك أو قريبك لماذا تكره الجزيرة وسيدهشك الرد: "إنت بتدافع عن اليهود بتوع قطر، ده قناة خنزيرة عميلة"، ولكنه لن يقول لك أبدا لماذا يكرهها فعلا!

هل نسيتم أن في الوقت الذي كان إعلاميين القنوات الفضائية المصرية يصفون خالد سعيد، الناشط المصري الذي سَحق وجهه مخبرين أمن الدولة، بأنه مدمن المخدرات المتهرب من التجنيد، كانت الجزيرة تقدم تقارير عن دوره في اندلاع الثورة وأنه بوعزيزي المصري نسبة للمواطن التونسي الذي دفعه إحباطه الشديد من إهانته بعد أن صفع على وجهه لينهي حياته محترقا. فأشعل العالم العربي؟ هل نسيتم المذيعين والمذيعات المصريين الشرفاء الذين استقالوا من التلفزيون المصري يوم ٢٦ و٢٧ و٢٨ يناير بسبب إجبارهم على قول ان المتظاهرين في التحرير ٣٠٠ شخص وأن بينهم إيرانيين وفلسطينيين وأجانب وحتى إسرائيليين!!

هل نسيتم علي جمعة مفتي مصر السابق والشيخ أحمد الطيب وهم يقولون على التلفزيون المصري، الخروج على شرعية مبارك حرام حرام. عودوا إلى بيوتكم؟ هل نسيتم فضيحة الفتاة التي تم تأجيرها لتقول أنها تدربت في أمريكا وقطر لقلب نظام الحكم؟ هل نسيتم التلفزيون المصري أيام مذبحة ماسبيرو والمذيعة تصرخ: "المسيحيين بيضربوا الجيش، انزلوا يا مصريين دافعوا عن جيشكم"؟، هل نسيتم بعض الممثلين المحدودين وهم يقولون على التلفزيون المصري إن المتظاهرين في التحرير يدخنون المخدرات ويقومون بعمليات جنسية كاملة داخل خيام الاعتصام؟ هل نسيتم المذيع وهو يقول أن العربة المصفحة التي سحقت المصريين أمام ماسبيرو كان يقودها واحد خطف المفتاح من العسكري وقادها لوحده ودهس العشرات؟

هل نسيتم أن قناة الجزيرة قطع عنها كل خطوط الاتصال بما فيها التليفون والإنترنت والقمر الصناعي لخنق صوتها وصورتها، ثم اقتحمها بلطجية أمن الدولة لا لشيء إلا لوقف بثها الصادق لما يحدث في التحرير مركز ثورة 25 يناير المفعم بالأحداث والبطولات؟ هل تنكر أن قناة الجزيرة هي أيقونة ثورة ٢٥ يناير الإعلامية وهي التي قدمت الصورة التي أنزلت عشرات الألوف من منازلهم لنصرة المتواجدين بالتحرير؟

ما هذه الذاكرة السمكية الانتقائية المريضة التي أصبحنا نمتلكها وتفخر بها. دعنا نتأمل أداء الإعلام الذي ينقد الجزيرة ويدعي أنها قناة مغرضة، وذلك من لحظة الانقلاب ٣٠ يونيو ٢٠١٣. لقد قدم التلفزيون المصري مثالا صارخا على الإعلام المُوجه المُزيف لوعي الشعب. في ساعات أصبح السيسي مصر ومصر هي السيسي والاغتيال المعنوي مصير من يعارض أو يتساءل أو يستنكر. ويكفيك أن تتأمل ماذا فعلوا في د. محمد البرادعي عندما صدرت الأوامر باغتياله معنويا وإنسانيا. قارن هذا بموقف قناة الجزيرة وحتى بعد مذابح رابعة العدوية وسحق المعارضين وفض كل الاعتصامات بأفدح الخسائر وهي الدم المصري.

هل تراجعت قناة الجزيرة على وعدها بأن تقدم الرأي والرأي الآخر؟ أبدا وتأمل البرامج المختلفة يوثق هذا التوجه. فقد استضافت القناة هنا في مقرها بمدينة الدوحة الكثيرين من مناصري الانقلاب وكارهي الإخوان والمتحولين نحو أن 25 يناير لم تكن ثورة وإنما مؤامرة. استضافت الجزيرة في استوديوهاتها بالدوحة أو عبر الأقمار الصناعية أمثال حسن نافعة وعمر ربيع هاشم وخالد داود وسليمان جودة وعماد الدين حسين وسعد هجرس ومحمود إبراهيم وغيرهم. وأعطت لهم كامل الحرية للتعبير عن وجهة نظرهم حتى لو تضمنت هجوما على القناة نفسها. هل سمحت أي قناة فضائية مصرية باستضافة أي صوت ممن هم ضد الانقلاب أو الشرعية أو سفك دماء المصريين او تحويل مصر إلى سجن كبير؟

إذن لماذا كان المصريون يصرخون بـ "أحبك يا جزيرة"، والآن يقولون قناة الخنزيرة؟ الواقع أن الجزيرة لم تتغير ولكننا تغيرنا وتم التلاعب بعقولنا وإدراكنا لدرجة أن من ثبت كذبه يقينا عشرات المرات من الإعلاميين الفضائيين مازال يمثل لنا مرجعية ونستشهد به.

أكبر دليل على سقوطنا المروع في اختبار الحرية والديمقراطية هو رغبتنا في إسكات وإخراس الآخر. وتقنيات الإسكات كلاسيكية ومتكررة بغباء: القناة العميلة المأجورة الممولة من قطر وأمريكا وإسرائيل.

الجزيرة هي القناة العربية الوحيدة التي تشكل جزء من النسيج الإعلامي العالمي ومرجعية للكثيرين، وهي التي وصل غباء بوش الابن بالتهديد بنسفها لأنها كاشفة، ونقدها نتنياهو وباراك، وفي نفس الوقت نسميها الآن في مصر قناة صهيونية أمريكية. كيف تكون صهيونية إسرائيلية والأحداث اليوم توضح الرغبة الشديدة من جهة إسرائيل لوقف بثها وإغلاق مكتبها بعد أن هاجمه المتطرفون اليهود؟ كراهية الجزيرة جزء من مسلسل كراهية ينهش في عقولنا وقلوبنا ولكننا لا نجهد أنفسنا لإيجاد أي تبرير أو تفسير.

نجح الانقلابيون وعلى مدى أعوام من التسريب البطيء والمدروس لأفكار مسمومة لا عقلانية، أصبح المصريين مؤمنين بها وفي نفس الوقت عاجزين عن تفسيرها. اسأل صديقك أو قريبك لماذا تكره الجزيرة وسيدهشك الرد: "إنت بتدافع عن اليهود بتوع قطر، ده قناة خنزيرة عميلة"، ولكنه لن يقول لك أبدا لماذا يكرهها فعلا. نسى أو تناسى دورها ومهنيتها واستنادها الدائم على حقائق. كل هذا السيل من الاتهامات لا يدعمه أبدا وثائق أو أدلة تحطم الجزيرة وتفقدها مصداقيتها.

أكبر دليل على سقوطنا المروع في اختبار الحرية والديمقراطية هو رغبتنا في إسكات وإخراس الآخر. وتقنيات الإسكات كلاسيكية ومتكررة بغباء: القناة العميلة المأجورة الممولة من قطر وأمريكا وإسرائيل. قارن السلوك المهني الاحترافي لقناة الجزيرة في أزمة دول الخليج الراهنة مع ما تفعله قنوات أخرى من انزلاق إنساني ولغوي وقيمي. وأخيرا سأسألك: متى آخر مرة شاهدت الجزيرة؟ لا ترد فأنت كالكثيرين أقنعوه بأن يكره الجزيرة ولكنه يشاهدها كل يوم. ليقترب من الحقيقة، ويبتعد عن المُفلس المُزيف المُوجه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.