شعار قسم مدونات

تقاعس المثقف والصحوة الاحتجاجية

blogs - ناس في الشارع
1- تفاؤل المثقف بحراك 20 فبراير واحتجاجات الراهن:
– شاع في الفترات الأخيرة؛ انطباع قوي عبر قنوات الرأي العام بأن عينة من المثقفين تقاعسوا تدريجيا عن الخوض في الحياة العامة وانسحبوا إلى الظل، بعد اندحار آمال أيدولوجيات غابرة عرفت صداها الساحة السياسية المغربية في رماد سبعينيات القرن الماضي، وأمام قدوم كاسح لساسة جدد احتلوا الميدان وانقضوا على دفة صناعة القرار، بقوة البهرجة، متدافعين لتملّكها دون هوادة.

وكأن تلك القنوات والجسور المتحركة التي كانت تمرر أصواتهم، وفق ما يعكسه هذا الانطباع، صارت مجرد منصات سياسية قاحلة لم يعد يتبوأ فيها المثقف مكانه الطبيعي والمناسب كما هو متوقع من شريحة اجتماعية نخبوية لها مهام وأدوار، مرت سابقا من تحولات حقيقية وأطوار تاريخية صُقلت خلالها مرارا، إلى أن بلغت هذه المحطة القارة التي التبست بوضع مريب.

كما كانت هناك قضايا كبرى مصيرية لم تثر شحناء المثقفين المعروفين، ولا حفزت تدخلهم السياسي المنتظر حينها في الشأن العام:

– كاتفاقيات تجارية حرة الغات gaT، وبزوغ لأول مرة مغربيا مشاكل البيئة وتداعياتها المستقبلية، وانبثاق نظام ليبرالي جديد في الجوار الجغرافي مدفوع بدوامة العولمة الجارفة… كذالك لم نر وقتها، في التسعينيات، أنهم بادروا ولو تلميحا، بالقيام بدورعملي مباشر أو ملموس إزاء قضايا حساسة، مثل تصاعد مد التيار الحركي الجهادي والولادات المتناسلة لتيارات التكفير وبداية تآكل القيم التقدمية البراقة، واِنْمِحَاق مناعتها من أذهان الأجيال.

بعض مثقفينا الآخرين المسرنمين المسيسين المؤدلجين حتى التخمة اعتادوا تأويل الأحداث انطلاقا من شبكة تنظيراتهم الضيقة العقيمة التي تنتظر ثورة موهومة على مقاس أحلامهم البائرة.

غير أن الحراك الاجتماعي القوي الأخير، الذي اجتاح الشوارع فجأة، في العقد الأول من الألفية الثالثة، والذي كان في عمقه رد فعل غاضب وعفوي، ضد تدهور الأوضاع واختناقها في كثير من القطاعات الحيوية، استفز وأيقظ عددا كبيرا من مُسرنمي النخبة والأطر الثقافية، لحد دفعهم ينزلون لإسفلت الشارع، لاستنشاق هواء سياسي بنكهة جديدة، يشبه في مناحي الذاكرة الشعبية، تلك المظاهرات الدموية العنيفة، التي طالما تغنى بها المناضلون المتقاعدون من القدامى.

وما كان مثيرا في هذا الظهور أو لنسميه شبه، العودة الخاطفة للمثقف، أنه لم يكتف بمساندة حشود 20 فبراير من بعيد، بل دعا بصوت مهزوز أنه حانت ساعة العزم، لعقد اللقاءات العاجلة والضرورية في هذا الظرف الراهن، للمّ شمل القوى الحية المنخرطة في نضال الواقع (وكانت محاولات محتشمة لترجمة هذا، نفذت من أقصى اليسار مرورا بقطب اليسار المعتدل)، ولتواكبها مشاركة تمثيلية فعالة من القوى الفكرية والثقافية، ونُخب ملتزمة، لكي تبحث وتفسر في مجريات ذاك الحراك، التحديات والرهانات التي يطرحها المخاض السياسي الجديد.

ورغم أن المتتبع ما كان له أن يتوقع، عودة المثقف، بهكذا تبعية، لهذه الصحوة الاحتجاجية الشبابية المجازفة، فإن الأوضاع آنئذ، خصوصا ما يتعلق منها بالمطالبة بالحريات الجماعية والفردية وحقوق الإنسان وتفعيل الديمقراطية مؤسساتيا وتنزيل العدالة الاجتماعية، كانت تستدعي حضوره بقوة للانخراط بصيغة أو بأخرى في الاشتباك السياسي.

2- تقاعس طائفة أخرى من المثقفين عن احتجاجات الراهن:
– أما بعض مثقفينا الآخرين المسرنمين المسيسين المؤدلجين حتى التخمة اعتادوا تأويل الأحداث انطلاقا من شبكة تنظيراتهم الضيقة العقيمة التي تنتظر ثورة موهومة على مقاس أحلامهم البائرة. 
– كانت صلاتهم ودعاؤهم دوما مرفوعة لآلهة "صدف التاريخ " لتجلب لهم أمطار التغيير والتحول الجذري المرجو بحرقة لا تضاهيها إلا حرقة الانتظار العقيم.

– أمطار خير سياسي يهطل مدرارا من سماء العناية الإلاهية على صفحة نهر متموج لا يقوده إلا عماء المزاجية في ممارسة السلطة.
– كانت معتقداتهم الثورية السحرية سابقا متعلقة بمعجزة ما حتى لو كانت فرضيتها قليلة الإقناع، فلقد آمنوا بها إيمانا صادقا ثم دخلوا في هدنة مع النظام القائم وصاروا يطالبون بالحد الأدنى من الثقة لتداول الحكم بالشروط إياها المعروفة.

– وتناسوا رويدا فرويدا أفكارهم الجريئة الثورية التي أصبحت بحكم العدوى ودون أن يشعروا جزءا لا يتجزأ من إرث ثقافي ينتقل من جيل إلى جيل وبتغلغل في عقول أبناء وبنات الشرائح والطبقات الدنيا. 
– وصار كل واحد من هذا الجيل الموالي بطريقته وأسلوبه الفردي الخاص يمتلك أسبابا قاهرة ووجيهة للإيمان بأفضل من تلك الأفكار وحتى تجاوزها عمليا. 

ما زالوا يتشوقون ويتعطشون بالكامل لرؤية لطخات الدماء ساخنة وسائلة على الرصيف والرصاص يعلو من حولها حتى تكتمل لديهم مقومات الإيمان الفعلي بأن أمرا ما يحدث ويحرك مياه ساكنة.

– وفي المقابل ها هم مثقفونا الكسالى والبؤساء ثوريا لم يعودوا يبتهلون من أجل سقوط مطر التغيير الجذري مع أن فترة مسلسل الاحتجاجات هذه السنوات المتتالية (والحراك الذي عرفه المغرب السياسي على كل الأصعدة) صارت الحاجة فيها للفعل قائمة بشكل قوي والنزول للشارع أولوية من الأولويات.
– والأدهى من كل هذا أن مثقفينا الكهول قصارى النظر ما زال أسلوب الاحتجاج السلمي وخروج الجموع بشكل عفوي جبار (وفرض حضورها الطاغي على شوارع المدن الكبرى) قليلة الإقناع في نظر أذهانهم المضببة بسحاب الأوهام!

– فهم ما زالوا يتشوقون ويتعطشون بالكامل لرؤية لطخات الدماء ساخنة وسائلة على الرصيف والرصاص يعلو من حولها حتى تكتمل لديهم مقومات الإيمان الفعلي بأن أمرا ما يحدث ويحرك مياه ساكنة لم تكن تجري تحت قناطر حكم مستبد قائم.
– فصار عطشهم ورغبتهم اللاشعورية في رؤية رشاش الدماء في كل الأمكنة؛ كحال تلك العشيقة العذراء التي تجبر خطيبها كل مرة، على أن يسكب دموعه الساخنة بين راحة كفيها كعربون محبة وبرهان أكيد على حبه الملموس لها هي وحدها دون الأخريات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.