شعار قسم مدونات

قطر والعبودية والمتحف الشجاع

blogs متحف بن جلمود للرق

لم تَعد المتاحف في عالم القرن الواحد والعشرين أماكن لعرض مقتنيات تاريخية أو إبداعات فنية فقط، ولكنها أصبحت فضاءات عامة ديمقراطية تحفز الحوار والتعلم والتساؤل والاندماج. وما أحوجنا في عالمنا العربي المعاصر لكل الفضاءات التي تجعلنا مفكرين متأملين متحاورين متسائلين ناقدين.

 

في العقد الأخير تبارت معظم المدن الخليجية في إضافة نسقاً بنائياً جديداً إلى نسيجها العمراني وهو المتاحف ذات المقتنيات الفريدة والقَيمة والسمعة العالمية. وقد استدعت هذه المدن، مسلحة بفوائد من عوائد النفط، نجوم العمارة العالمية لتحقيق هذه التصورات في نسيجها. جاء المعماريون النجوم ومنهم جون نوفيل وأي أم باي وفرانك جيري والراحلة زاها حديد وصمموا وبنوا مجموعة غير مسبوقة من المتاحف في عواصم دول الخليج.

الجدير بالذكر أن وسط هذه الحالة من الانبهار بهذه التصميمات وما بني منها، أجدني اتوقف أمام متحفاً شديد التواضع ولكنه من وجهة نظري متحفاً شجاعاً فارقاً في مقياسه ومحتواه ورسالته ورمزيته، والأكثر أهمية في فلسفة تأسيسه في السياق الخليجي العربي الإسلامي. قصة المتحف الشجاع جديرة بالتوثيق والتحليل لأنها تتعامل مع سيناريو غير مسبوق في الشرق الأوسط عامة والسياق الخليجي المتحفظ خاصة.

على الرغم من حساسية الموضوع والتوجهات السابقة في السياق العربي والإسلامي لتجاهله، ولكن الحرص كان أكثر على إدراك وتفهم حقائق تاريخية للرق في الخليج وقطر وتعزيز الحوار حول هذه القضية التي يتجنبها الكثيرون في السياق الإسلامي الشرق أوسطي

هذا المتحف هو متحف الرق أو العبودية والذي يشغل منزلا تقليديا تراثياً أُعيد تأهيله وترميمه وتصميم فضاءاته الداخلية ليسرد قصة الرق والعبودية في قطر والخليج والعالم. نعم، أقدر اندهاشكم فمن يملك الجرأة ليسرد قصة وجود الرق حتى منتصف القرن العشرين في سياق الدول الخليجية المسلمة؟ بل أن هذا المتحف الشجاع يمثل حالة فريدة حتى على مستوى العالم.

 

يقع المتحف في الركن الشرقي من مشروع مشيرب "قلب الدوحة"، وهو المشروع الذي أعاد الحياة لقلب مدينة الدوحة القديمة الذي أُهمل في العقود الماضية بعد هجرة الأهل بعد طفرة النفط وعوائده السخية سعياً وراء نماذج عالمية للحياة على أطراف الدوحة. وبصورة محددة فإن موقع المتحف في قلب المربع الثقافي داخل مشيرب الذي يضم مجموعة من المتاحف تشغل جميعها بيوتاً تقليدية أثرية أشرفت على ترميمها وإعادة استخدامها هيئة المتاحف القطرية. والمتاحف صممت ليكون لها تواصل بصري وحركي مع سوق واقف التراثي وفضاءاته العامة المفعمة بالحياة.

البيت التقليدي الأثري الذي تحول إلى متحف كان يسكنه تاجر لقبه "الجلمود" لقسوته وصلابته، وكانت تجارته تشمل الرقيق وورد أسمه في وثيقة عتق مؤرخة في ديسمبر 1942 تبعا للوثائق البريطانية. هذا البيت، وفقط من أقل من قرن كان مكاناً لتخزين البضاعة البشرية من نساء وأطفال ورجال مقيدين بالسلاسل الحديدية ينتظرون مصيرهم ومالكهم الجديد.

 

تبدأ الرحلة في فضاءات المتحف الشجاع من خلال مجموعة من القاعات الملتفة حول الفناء الداخلي، حيث تبدأ من رؤية المتحف والتأكيد على أهمية قراءة كل فصول التاريخ وتوثيقها حتى ما يثير الخجل حتى نواجه المستقبل بصورة أفضل ونتحاور بمنطق لا يشوبه الخوف. ثم تتوالى القاعات حيث تخصص التالية لسرد قصة الرق في العالم ثم في منطقة المحيط الهندي ثم الرق في قطر وتختم بطرح متعمق عن مفاهيم الرق المعاصر وفعالية تشاركية تمكن الزوار من الانضمام الى نداء محاربة الرق في العالم وبكل صوره. والمتحف الشجاع يستخدم كل تقنيات العرض من اللوحات والوثائق والمواد الأرشيفية والصور الفوتوغرافية والمقتنيات المادية والخرائط وافلام الفيديو واللوحات التفاعلية.

وعلى الرغم من حساسية الموضوع والتوجهات السابقة في السياق العربي والإسلامي لتجاهله، ولكن الحرص كان أكثر على إدراك وتفهم حقائق تاريخية للرق في الخليج وقطر وتعزيز الحوار حول هذه القضية التي يتجنبها الكثيرون في السياق الإسلامي الشرق أوسطي. يعلمنا المتحف أن الرق نظام بغيض يفصل البشر عن عائلاتهم بصور متعددة منها الخطف أو الأسر أو العقاب على جرائم، بل ودفعاً للديون.

 

ويوثق المتحف أن قطر وكل منطقة الخليج كانت جزء من منظومة الرق المزدهرة في سياق المحيط الهندي. كما يوضح المتحف ازدهار الرق في شبه الجزيرة العربية والجلب المستمر لهم من النوبة في مصر أو الحبشة وباقي افريقيا وايضا نطاقات جغرافية متعددة. كما يوثق أن بعض الأسر الفقيرة اعتادت بيع أبنائها. كما يلفت المتحف النظر الى سير عبيد أصبح لهم قيمة كبرى بعد تحريرهم مثل حالة عنتر بن شداد أو بلال بن رباح مؤذن الرسول.

يوضح المتحف موقف الإسلام وتأثير ظهوره على عملية الرق، حيث نظمها وحصرها على الأسر في الحروب والميلاد في الرق والشراء. ثم جاءت مراحل من التشجيع على تحرير الرقيق مع الحرص الكامل على الإحسان لهم وحسن معاملتهم. مستوى مصداقية التوثيق، على الرغم من حساسية الموضوع، تبهر الزائر، فلا يوجد حرج في الاعتراف بان قصر الخليفة العباسي "المكتفي بالله" مثلا ضم عشرة الالاف من الرقيق. فعلى الرغم من تعاليم الإسلام فقد أستمر اقتناء الرقيق أحد أهم علامات الثراء. وفي هذا السياق يستوقفك الصور الفوتوغرافية للرقيق في مكة المكرمة بعد الإسلام والتي التقطها كريستيان سنوك ونشرت عام 1888.

يؤلمك المتحف الشجاع في جزئه الأخير، وهو يوثق ان في لحظتنا المعاصرة هناك أكثر من اثنين ونصف مليون شخص ضحايا الاتجار بالبشر منهم مليون طفل، وأن من بين 190 دولة في العالم، هناك 161 دولة تلعب دورا في الإتجار بالبشر

وتصل دراما المتحف الشجاع إلى أقصاها وهو يخصص خمس قاعات لسياق قطر والرقيق في العقود الأولى من القرن العشرين والأماكن التي قدموا منها وأساليب نقلهم واستجلابهم وأسعارهم ثم أعمالهم وحياتهم اليومية. لقد حرَّمت قطر العبودية في منتصف القرن العشرين وبالتحديد عام 1952، عندما أصدر حاكمها الشيخ على بن حمد بن عبد الله آل ثاني، قانوناً يحرم إقتناء العبيد. فتحول العبيد إلى أحرار واندمجوا في المجتمع. وفي عام 1961 وقبل عشر سنوات من الاستقلال عام 1971، كانت قطر أول دولة خليجية توطن المحررين من الرق، وأصبح من حقهم أن يصيروا مواطنين.

ثم يؤلمك المتحف الشجاع في جزئه الأخير، وهو يوثق ان في لحظتنا المعاصرة هناك أكثر من اثنين ونصف مليون شخص ضحايا الإتجار بالبشر منهم مليون طفل، وأن من بين 190 دولة في العالم، هناك 161 دولة تلعب دورا في الاتجار بالبشر مصدرة لهم أو وجهة عبور أو مستقبلة للضحايا. وان العبودية الحديثة كقصص العمال في مصانع بنجلاديش او العمالة في الخليج او الاتجار بالجنس كلها ممارسات يجب ان تتوقف فوراً وللأبد. وعندما تقترب نهاية الرحلة في المتحف الشجاع تتبلور أمام الزائر الجهود الحالية التي تبذلها دولة قطر على السياق الإقليمي والعالمي ومساهماتها المتصاعدة لإنهاء الاتجار بالبشر تماما. 

الحافز الأكبر لي لكتابة هذا المقال هو النهاية البديعة الملهمة لجولتي في المتحف حيث دعيت للمشاركة في برنامج تفاعلي تعهدت فيه مع من سبقوني من أشخاص زاروا المتحف من كل أنحاء العالم، بأن نساهم في توعية الآخرين عن قسوة الإتجار بالبشر بكل صوره وحتمية إبادته من سياقنا الإنساني المعاصر.

شكراً لكل من ملك الشجاعة والجرأة ليقدم لأهل قطر والخليج والعرب وكل العالم هذا المتحف الشجاع الذي يتحدى مفاهيم التوثيق التاريخي والتراثي والإنساني في السياق الخليجي والعربي والإسلامي بل والعالمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.