شعار قسم مدونات

أين ذهبوا بالإرهاب الذي نعرفه؟

مدونات - الموصل
عندما كنت صغيرًا في إحدى حصص اللغة العربية مررنا على كلمة "الإرهاب" فقال لنا الأستاذ: "هذه الكلمة مشتقّة من الجذر الثلاثي ر-ه-ب، ومعناها البسيط التخويف والتفزيع"، وبعد أن كبرت وتعددت مصادر المعرفة وجدت أن "العالم" قد اصطلح على عدة تعريفات للإرهاب، من أبرزها أن الإرهاب هو: "أعمال ووسائل وممارسات غير مُبرَّرة، تمارسها أيُّ منظمات أو دول، تستثير رعب الجمهور أو مجموعة من الناس لأسباب سياسيّة بصرف النظر عن بواعثه المختلفة".

لكنّني اليوم أقف حائرًا أمام كمّ التحريف والتبديل والبدع التي دخلت على مصطلح "الإرهاب"؛ فكلمة "أي" كانت أوّلَ الساقطينَ من المصطلح، فكأنما صار الإرهاب الذي تمارسه بعض "المنظمات" حقًّا مشروعًا لها بل جهدًا تُشكَر عليه ويَخلع عليها العالمُ أرفعَ صفات "النبل" و"النضال"، بينما بالمقابل احتفظت منظمات أخرى بمكانها في قوائم الإرهاب وتعريفه، ثمَّ لحقت كلمة "الدول" بكلمة "أي" الساقطة من التعريف وسقطت معها، فصارت الدول الراعية للإرهاب واللاعب الأهم في ميدانه تقيم محاضراتٍ لكشف وجه الإرهاب الأسود ولتعريف العالم به! هي حتمًا كذلك الذي "قتل القتيل ومشى في جنازته".

لماذا لا يسمّون قصف "التحالف الدولي" الذي يحصد أرواح المدنيين يوميًّا إرهابًا؟ لماذا لا يندرج "الحشد الشعبي" وفصائله التي هجّرت ونكّلت بأهل الديار الأصيلين الأصليين في قوائم الإرهاب؟

لقد وقفت طويلًا وفكّرت كثيرًا لعلّني أجد أصلَ المشكلة، لعلّني أقف على سبب التغيير والتحوير الذي جرى على مصطلح الإرهاب، لعلّني أصل إلى السارق الذي اجتزأ التعريفَ وسرق بعض الكلمات منه فجعله تعريفًا مسيّسًا إلى درجة كبيرة؛ فلم يعد التعريف جامعًا بعدما سُرقت منه كلمة "أي"، كذلك لم يعد مانعًا عندما سرقت منه كلمة "الدول" بل صار مائعًا تلعب به الخيوطُ الخفيّةُ كيفما شاءت، تقلبه يمينًا وشمالًا، تضيف إليه أقوامًا وتزيل آخرين! حتى كأنما صار الأمر حُكمًا فقهيًّا؛ فهنالك إرهاب حلال وإرهاب حرام.

باتت القصة معقدةً متشابكةً الأطراف في بالي ودخل الشك إليَّ، وتكاثرت الأسئلة في عقلي : هل كذب علينا معلم اللغة العربية عندما شرح لنا معنى الإرهاب أوّلَ مرة؟ أم هل التعريفُ الذي اصطلحَ عليه العالمُ ليس دقيقًا ولا شاملًا؟ هل أحتاج إلى مراجعات فكرية عن تعريف الإرهاب؟ وعلامات استفهام كثيرة.. أين أجد ضالّتي؟ طال بي الزمان قبل أن أجد من يعطيني القول الفصل، عثرت على النبع الأصيل نعم لقد وجدت العراقَ وسوريا ووجدت عندهما ضالتي، فجلست بين أيديهم فكنت أسألهما: أين ذهبوا بالإرهاب الذي نعرفه؟ وأنتظر بلهفة الطفل الصغير لأمّه حتى أسمعَ الجواب..

أمّا العراق فلم يكن حزينًا هذه المرةَ بال كان غاضبًا وقال: لقد سرقوا كلَّ خيراتي فهل يسرقون اليوم أيضًا أجزاءً من الإرهاب الذي تعرضت له ويخفونها من التاريخ! لماذا لا يسمّون قصف "التحالف الدولي" الذي يحصد أرواح المدنيين يوميًّا إرهابًا؟ لماذا لا يندرج "الحشد الشعبي" وفصائله التي هجّرت ونكّلت بأهل الديار الأصيلين الأصليين في قوائم الإرهاب؟ لماذا لا يعد تدميرُ التاريخ وسرقة المستقبل في الموصل -أمِّ الربيعين- إرهابًا؟ لماذا صارت كذبة "محاربة المجموعات الإرهابية" تأشيرةً تسمح لحاملها بالعبث بكل ما في أرضي من دم وحجر وتاريخ؟ لماذا نسيتم أنَّ الذين يدّعون محاربة المجموعات الإرهابية كانوا يمارسون أفظع صور الإرهاب قبل ظهور هذه المجموعات؟ لماذا دائمًا تسرقون العراق؟ هل استكثرتم عليه حزنه؟

مهما ادّعيتم ارتقاء سلالم الثقافة والعلم، عليكم أن تعودوا إلى معلّم اللغة العربية في الصفوف الأولى ليشرح لكم معنى كلمة "الإرهاب"، لأنها كانت وستظل تعني: كلّ عمل تخويف أو قتل أو تهجير ترتكبه أي منظمة أو دولة -بغير حق.

وأمّا سوريا فقد خنقتها العَبْرة ولم تنطق ببنت شفة، إلا أنني قرأت الإجابة في جفون عينيها التي كانت تقطر ألمًا: هل نسي العالم مئات الآلاف من أبنائي الذين قتلهم "وجه الموت" بشار ذبحًا وتفجيرًا وحرقًا وتعذيبًا وجوعًا وخنقًا حتى استعجب الموت نفسه من تعدد طرائقه؟ هل صارت روسيا التي سوّت حلبَ الشَهْباءَ بالأرض ضامنةً لحفظ السلام لأولادي الذين قتلت إخوتهم؟ هل نسيتم رائحة الموت التي حملها معه "حزب الله" إلى كلِّ مُدُني في طريقه الضائعة إلى القدس؟ هل تحوَّل مسلخ "صيدنايا" ومذبح "تدمر" إلى مراكز إصلاحٍ يدخلها المسجون أميًّا ويخرج طبيبًا أو مهندسًا؟ هل كان "البرميل المتفجر" و"الكيماوي" و"الفسفور الحارق" أحلامًا عابرة؟ هل صار الدم ماءً والإرهابُ عملًا وطنيًّا يفرض على العالم أن لا بديل عن الأسد، فصار العالم كلُّه يقول: "الأسد أو تُحرَق البلد"؟

إلى أصحاب العين المفقوءة، إلى الأعور الدجّال في عصرنا، إلى الذين لا يرون -أو لا يريدون أن يروا- الحقيقةَ الكاملة، إلى الذين لم يحركهم بكاءُ الطفلة المهجّرة في الموصل ووجومُ الطفلة التي قُصِفَ منزلها في الرقّة: مهما ادّعيتم ارتقاء سلالم الثقافة والعلم، عليكم أن تعودوا إلى معلّم اللغة العربية في الصفوف الأولى ليشرح لكم معنى كلمة "الإرهاب"، لأنها كانت وستظل تعني: كلّ عمل تخويف أو قتل أو تهجير ترتكبه أي منظمة أو دولة -بغير حق، فليس الذي في صفّكم والدول التي هي "وليُّ نعمتكم" المستثنى وليس خصمكم هو المدان الوحيد، فهلّا أخذتم بنصيحتنا وأخبرتمونا : أين ذهبتم بالإرهاب الذي نعرفه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.