شعار قسم مدونات

مقدمة في العمل الحركي الحديث

مدونات - دعوة

"جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" رواه مسلم، ونلاحظ أن "إن منكم منفرين" لم تأتي في سياق أن المنفر داعية فلم يكن يدعو الناس بموعظة أو خطبة بل كان إماما في صلاة وهذا يدل على أن أي عمل من المسلم يجب أن يوزن بميزان التنفير والترغيب.

الدعوة إذا هي كل فعل أو خطاب أو حتى ترك لفعل يقوم به المسلم ويظهر للعامة إذ أن المسلم المتصدر للعمل العام ينبغي أن يدرك أن حتى أنفاسه التي يتنفسها ستجد من يتنصت عليها، إن حال الداعية ومدى صدقه وأمانته عند الناس من أولويات الداعي فيجب أن يستكشفها لدى الناس ومن خلال رؤية الناس لهذه الصفات فيه تتحدد قضيته وخطابه، فقبل البدء في طرح قضية ما الصحيح أن يكون هناك مسح (سيرفاي) لاختبار مدى حب الناس للداعية وتصديقهم له وبناء على هذا المسح يستطيع الداعي أن يختار موضوع الدعوة فإذا كان هذا الموضوع له أثر عميق في حياة الناس وسيغير حالهم وطريقة معيشتهم فيجب أن يرى الناس في هذا الداعي أقصى درجات الصدق والإخلاص والأمانة وغير ذلك فلن يصدقه الناس أو يؤمنوا بقضيته إلا في أشياء صغيرة لا تؤثر كثيرا على حياتهم.

الاستفادة من دراسة المنهج الاقتصادي في التفكير بجانب معرفة تفكير الخصوم أو (الآخر) وتوقع سلوكياته ومن ثم استباقه ستؤدي أيضا إلى تطوير هذا المنهج بما يتناسب مع التعاليم الإسلامية.

إن أول مسح شامل في الإسلام فعله الرسول، فعن ابن عباس أنه قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فكانت نتيجة هذا المسح إيجابية تمام وهنا أدرك الرسول أن هذه اللحظة المناسبة بعرض الإسلام الذي من شأنه أن يغير نظام حياتهم تماما.

تجدر الإشارة أن هذا السبب تحديدا وهو شخصية الداعية ومدى مصداقيته هي السبب الرئيسي التي جعلت الجاهلية في حربها على الإسلام قديما وحديثا تركز على شخص الرسول، وحتى الآن فكل حركة لها زعيم أو قائد تجد أن التركيز الإعلامي ينصب على تشويه شخص هذا القائد حتى لا يكون له رصيد كافي من المصداقية عند الناس فلا يصدق الناس كلامه أو يتبعوه.

الواضح إذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفكر بعشوائية فيما يخص الدعوة بل كان هناك نسق خاص ونمط معين واستراتيجية محددة سواء كان ذلك بموهبة أو بعلم، ففي النهاية لا ينبغي لمن يتصدر العمل الدعوي العام أن يتجاهل عناصر رئيسية هي (الرسالة – الرؤية – الهدف) ونلاحظ أن هذه العناصر الثلاثة هي أركان أي عمل مؤسسي حديث، يقول الله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآيات وقال أيضا إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ " ونلاحظ من الآيات استخدام مصطلحات اقتصادية مثل تجارة و اشترى وكأن الله يريد أن نفكر في الدين والعمل بمنطلق اقتصادي وتفكير عقلاني، إن مثل هذا النوع من التفكير وخاصة في العمل الجماعي قد ارتضاه الله لنا وبديله هو العشوائية وضياع الهدف والتشرذم والتنازع.

يخبرنا الله أنه سيحسب للناس حسناتهم وسيئاتهم بالأرقام وهناك ملك للحسنات وملك للسيئات يدون لنا كل صغيرة وكبيرة وستعرض عليه يوم القيامة في كتاب مجدول مكتوب فيه الحسنات في خانة والسيئات في خانة، ألا يوحي لك هذا الترتيب والتنظيم أنك أيضا يجب أن تكون منظم ومرتب في أعمالك وأقوالك وتزن كل ما يصدر منك بميزان اقتصادي دقيق؟!

إن الاستفادة من دراسة المنهج الاقتصادي في التفكير بجانب معرفة تفكير الخصوم أو (الآخر) وتوقع سلوكياته ومن ثم استباقه ستؤدي أيضا إلى تطوير هذا المنهج بما يتناسب مع التعاليم الإسلامية وسواء شاءت أم أبت أي حركة أصولية فإعراضها عن تنظيم نفسها بمنهج اقتصادي سيجعلها تختفي حيث أن كثير من الحركات الحديثة أو الحركات القديمة المتجدد التي تتبنى هذا المنهج توشك على اكتساح والتهام هذه الحركات الأصولية وكسب ثقة الشباب، فيجب على هذه الحركات إن أرادت الاستمرار أن تستوعب هذا المنهج قبل أن يستوعبها.

قد يطعن البعض في شرعية هذا النمط من التفكير أو يدعي صعوبة تطبيقه على المستوى الفردي أو الجماعي أو يقلل من جدواه، ولكن مناقشة هذه الأمور تحتاج لتفصيل جدلي ليس هذا مكانه ولكن بالعودة للعناصر الثلاثة الرئيسة لقيام أي مؤسسة أو جماعة أو حركة يمكن أن نناقشها بالتفصيل:

العنصر الأول الرسالة
لا شك أن رسالة كل مسلم هي نشر الإسلام فهو أول تكليف شرعي للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن بالحديث عن (حركة) أو مؤسسة فالرسالة هي عنوان هذه الحركة ومن خلالها يمكن صياغة الأهداف فينبغي أن تكون عامة، وهي على عموميتها تختلف من جماعة لأخرى سواء أعلنت ذلك أم لا، فمثلا نجد أن رسالة الجماعة (الحركة) السلفية هي نشر العلم الشرعي ورسالة الجماعات الجهادية هي التصدي المسلح للواقع الجاهلي وهكذا..

إن أي هدف غير قابل للقياس لا يسمى هدفا قد يسمى غاية أو رجاء أو حلم أو أي مسمى آخر، والهدف لكي يتحقق كليا فمن الأفضل أن يسبق ذلك تحقيق أهداف سهلة صغيرة بحيث يمكن أثناء تحقيقها معرفة العقبات واستكشاف الآليات لتحقيق الهدف الأكبر.

أما عن الرؤية فهي التصور المرحلي المستقبلي للحركة وهي أخص من الرسالة وأشمل من الأهداف أي أنها إجابة سؤال كيف ترى مكانة الحركة بعد فترة زمنية أو مرحلية معينة. الرؤية تنشأ من خلال فهم الواقع وتحليل الوقائع تحليل منهجي صحيح بوعي للمتغيرات وتوقع للمستقبل مبني على قراءة متفحصة للتاريخ دون الانتماء النفسي له.

وتأتي الأهداف وهي أكثر تخصصا من الرسالة والرؤية ومنها تتحدد الوسائل والاستراتيجيات التي سيمارسها أفراد الحركة وينبغي أن تكون الأهداف لها خصائص محددة:
أولا: أن تكون قابلة للقياس
إن أي هدف غير قابل للقياس لا يسمى هدف قد يسمى غاية أو رجاء أو حلم أو أي مسمى آخر.
ثانيا: أن يكون متسقا مع إمكانيات الشخص أو الجماعة وليس من الصعوبة بحيث يوحي باليأس من تحقيقه وليس من السهولة بحيث لا يحقق أي استفادة.
ثالثا: الهدف يجب أن يكون له فترة زمنية محددة.
رابعا: الهدف لكي يتحقق كليا فمن الأفضل أن يسبق ذلك تحقيق أهداف سهلة صغيرة بحيث يمكن أثناء تحقيقها معرفة العقبات واستكشاف الآليات لتحقيق الهدف الأكبر.

إن غياب أي من هذه العناصر الثلاثة في أي مرحلة من مراحل نمو وتطور الحركات سيؤدي حتما لانحرافها، ومعنى الغياب هنا عدم وجود (مشرف) أو (قائد) أو (مدير) يحدد مدى ارتباط أي من سلوك الأفراد بهذه العناصر الرئيسية، أي أن تقييم أي عمل يكون من خلال مدى ارتباطه بهذه العناصر وهذا ما يضمن عدم انحراف الجماعة عن رسالتها أو رؤيتها أو أهدافها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.