شعار قسم مدونات

هل سيد قطب لا يزال حياً؟

ميدان - سيد قطب
بحثت وقرأت كثيراً علني أجد مبرراً يدينك أمام محكمة التاريخ، ولكني أبداً لم أعثر على شيء (مواقع التواصل الاجتماعي)

إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء. هذا أحد النماذج من كلمات الأستاذ سيد قطب المضيئة والتي تعبق بها كتبه الــ 32 التي كتبها في حياته القصيرة التي عاشها، كلمات بقيت حية كما أراد لها، بعد أن افتدى مبادئه وكلماته التي آمن بها بروحه، فسار إلى مشنقته بشموخ وثقة أعزته وجعلته قوياً وجعلت قاتلوه هم الضعفاء.

كان قطب يدرك تماماً أن أصحاب المبادئ العليا مثله لا بُد وأن يُبتلوا، ويُمتحن إيمانهم بتلك المبادئ، فقد كتب أحمد عبد الغفور عطار في مجلة "كلمة الحق" العدد الثاني الصادر في أيار 1967 (أي بعد ما يقارب عام من استشهاد سيد قطب) ما يلي، في الحفل التكريمي الذي أقامه ضباط ثورة 23 يوليو/تموز 1952 لسيد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والدبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في أغسطس/آب 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك، وقف سيد قطب قائلاً "إن الثورة قد بدأت حقا، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام، لقد كنت في عهد الملكية، مهيئً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيئٌ للسجن أيضا، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل"، وكان عبد الغفور عطار قد حضر الحفل المذكور.

قالوا بأنك تملك أسلحة وادعوا بأنك تنوي قتل للطاغية للاستئثار بالسلطة من بعده، فتباً لهم ولحب الزعامة ولشياطينهم التي تملي عليهم أساليبها، كانوا يعلمون تماماً أن سلاحك الفتاك الذي ملكته لم يكن إلا القلم والأوراق

وأضاف الكاتب، فوقف عبد الناصر وقال بصوته الجهوري "أخي الكبير سيد، والله لن يصلوا إليك إلا وأجسادنا جثثاً هامدة". وكتب الدكتور صلاح الخالدي في كتابه "سيد قطب: الأديب والناقد، والداعية المجاهد، والمفسر الرائد" الصادر عن دار القلم في دمشق، أن الأديب الحجازي ومؤسس صحيفة عكاظ "أحمد عبد الغفور عطار" يقول "أنه بلغ من احترام الثورة بعد قيامها لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضله، أن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثير من الأمور، حتى إنه كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادة الثورة أحياناً، وكانوا يترددون على منزله في حلوان، بل إنه أول من طرح كلمة ثورة بدلاً من انقلاب لحركة 23يوليو.

ويقول الدكتور الخالدي أيضاً، أن مجلس الثورة قد قرر أن يسند لسيد قطب منصب وزير المعارف، إلا أنه رفض ورجاه أن يتولى منصب مدير عام الإذاعة فاعتذر، وقبل بعد ذلك منصب السكرتير العام لهيئة التحرير ليكون بذلك الرجل الثاني في الدولة، ولبث فيها شهراً واحداً، حيث دبت الخلافات بين سيد قطب وبين رجالات الثورة وعلى رأسهم عبد الناصر، فاستقال من هيئة التحرير.

اعتزل بعدها سيد قطب المناصب الرفيعة، وولى وجهه عن الثورة ورجالها ليتفرغ للعمل لأجل الحق الذي رآه بعينه مثل فلق الفجر وآمن به ولأجله أيضاً سيق للمشنقة "لا بد وأن توجد طليعة إسلامية تقود البشرية إلى الخلاص"، إلا أن العسكر لاحقوه، وبعد عامين من الكلام الذي ورد في بداية المقال "والله لن يصلوا إليك إلا وأجسادنا جثثاً هامدة"، سجن العسكر بقيادة جمال عبد الناصر سيد قطب للمرة الأولى، خرج منها بعد شهرين، وسجن مرة أخرى بعد ذلك لتُلصق به تهمة "تكوين تنظيم مسلح لاغتيال جمال عبد الناصر.

وتصوروا معي، صاحب القلم الفذ والفكر الإبداعي النير، والمشاعر المرهفة، يُـتهم بحمل بندقية وتكوين تنظيم مسلح لاغتيال صديق الأمس، يا للعجب!

ويعلم قائد العسكر علم اليقين أن سيد قطب بريء من تلك التهمة براءة الذئب من دم يوسف، ولكنه يعلم أيضاً أن سيد قطب بفكره يشكل خطراً عليه أشد فتكاً من التنظيم المسلح، فهو بفكره وكتاباته يستطيع قلب الموازين التي يسعى جمال عبد الناصر إلى تثبت كفتها لصالحه وصالح المبادئ التي فرضها عليه المنصب الجديد، فكان الخيار الوحيد أمام الطاغية هو السجن والتعذيب والإهانة لصاحب الفكر، وصولاً للمشنقة في نهاية الأمر، عساه يندثر وفكره إذا غيبه الثرى! ولكن هيهات هيهات، فأصحاب الدعوات لا يهزمهم الأذى، ولا ينهي دعواتهم.

تالله ما الدعوات تهزم بالأذى .. أبداً وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي .. بالنار ضع عنقي على السكين
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي .. وربي حافظي ومعيني
سأظل معتصماً بحبل عقيدتي .. وأموت مبتسماً ليحيا ديني

يعتقدون أنهم بذلك قد محوا صورتك المشرقة الصادقة، ونسوا أو تناسوا أن أمثالك يبقون مشرقين ساطعين أنقياء مهما جرت المحاولات للتغطية على نورهم

وعرفاناً بالجميل الذي صنعه معنا وتركه لنا سيد قطب أتقدم له بهذه الكلمات الساذجة والتي لا توفيه حقه، ولكنها فيض من المشاعر استبد بي فكتبته: قرأت كتبك أيها الكاتب والمفكر العظيم، وعشت معها، كما كثر غيري، حتى كان لأفكارها الفضل في تربيتي وتربية أجيال بأكملها، وتوضيح معالم الطريق أمامنا، فكنت المؤثر الأكبر فينا، بالرغم من أن الثرى قد غيبك عنا، بحثت وقرأت كثيراً علني أجد مبرراً يدينك أمام محكمة التاريخ، ولكني أبداً لم أعثر على شيء، فلا أعلم حتى الآن لماذا أراق دمك السفاح، ففي سجل حياتك ليس هناك ما يبرر حتى مجرد السجن.

قالوا بأنك تملك أسلحة وادعوا بأنك تنوي قتل للطاغية للاستئثار بالسلطة من بعده، فتباً لهم ولحب الزعامة ولشياطينهم التي تملي عليهم أساليبها، فتستجيب عقولهم بسذاجة، كانوا يعلمون تماماً أن سلاحك الفتاك الذي ملكته لم يكن إلا القلم والأوراق، والعقل الذي انحاز لأمته ودينه، فانتقد هذا العقل الديكتاتور، فضاق صدره وزبانيته بما تكتب، فليس من الأمور المباحة في وطننا العربي أن تنتقد دكتاتوراً.

لتعيش بسلام عليك أن تصفق لكل ما يقول، وأن تبارك كل ما يصدر عنه، ولكنك لم تصفق ولم تبارك، فكيف له أن يسمح لك بالبقاء حراً طليقاً تقول ما تقول وتفعل ما تشاء؟ أغراك بالمال والمنصب، وساومك لتختار بين حياتك وكرامتك، ولكنك اخترت ما آمنت به، وطفقت تدعو الناس له، وطبقت المبادئ التي دعوت لها، فبثثت فيها الروح فغدت حية تتحرك وتتكلم كما الأحياء، اخترت درب الأحرار، فهزمت بذلك طاغية عصرك وكل الطغاة الذي يأتون بعده.

لم تغرك المناصب الرفيعة، بل أعرضت عنها بكبرياء المؤمن، وهجرت متاع الدنيا، وانطلقت تبين الحقيقة التي اهتديت إليها للناس، شوه البعض فكرك، وألصقوا به ما لا يحتمل، لا ضير فمنابرهم يعتليها حاقدون، وظيفتهم التشويه والتدنيس، ويعتقدون أنهم بذلك قد محوا صورتك المشرقة الصادقة، ونسوا أو تناسوا أن أمثالك يبقون مشرقين ساطعين أنقياء مهما جرت المحاولات للتغطية على نورهم.

كيف لي أن أدع شهر أغسطس/آب يمر هكذا من دون أن أكتب عنك، وأتذكرك بكلمات الوفاء والعرفان، وأدعو لك بالرحمة والقبول!، رحمك الله أيها الأديب والمفكر والكاتب المبدع "سيد قطب" وعلى روحك ألف سلام، وجزاك الله عنا خير الجزاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.