شعار قسم مدونات

هل تنطفئ أضواء أبراج دبي؟

blogs أبراج دبي

هل تتناقض دبي مع وعودها؟ هل تدير دبي ظهرها لحقيقة تعيين وزيرة للسعادة لتحقيق سعادة المجتمع ووزيرة للتسامح لترسيخ التسامح كقيمة أساسية في المجتمع؟ هل تتراجع دبي عن تسويقها لشخصيتها المكانية كملتقى للتسامح والحرية والديمقراطية والتعددية؟ هل تتداعى صورة دبي إقليميا وعالميا بسبب أزمة الخليج الراهنة؟ لإجابة أكثر دقة على هذا التساؤلات، نبدأ أولا بسردية دبي في العقد الأخير.

اعتمدت دبي التي اعتبرت أكثر المدن الخليجية والعربية نموا، على مجموعة من الأدوات لتسويق المدينة لاعبا مؤثرا على المسرح العالمي. فقد تحولت المدينة من قرية صغيرة للصيادين مع ظهير صحراوي قاس إلى فانتازيا عمرانية ديناميكية النمو رأسيا وأفقيا. وتحول المشهد المعاصر للمدينة إلى مجموعة من المشروعات استثمارية الطابع من المجمعات التجارية العملاقة إلى المجمعات السكنية المغلقة ومدن الملاهي وناطحات السحاب التي خصصت كمقار للشركات متعددة الجنسيات التي تدفقت من أنحاء العالم لتحصل على نصيبها في سوق إغرائه لا يقاوم. كما حرصت دبي في مشروعها التسويقي لأن تكون مدينة عالمية، أن تداعب خيال الغرب بتواصل تاريخي مع أصولها العربية والإسلامية مذكرة السائح والمستثمر بسحر الشرق وعبق وغموض حضارته وامتداد صحرائه وصهوة خيوله وعيون صقوره.

 

إن دبي تلقت درسا هاما في مسارها عند تفاقم الأزمة المالية العالمية عام 2008 ولكن الإمارة تحقق لها ما لا يمكن تحقيقه لأي مدينة أخرى في العالم عندما ضخ شيوخ أبوظبي الجارة عشرات البلايين لإنقاذ دبي أثناء الأزمة
إن دبي تلقت درسا هاما في مسارها عند تفاقم الأزمة المالية العالمية عام 2008 ولكن الإمارة تحقق لها ما لا يمكن تحقيقه لأي مدينة أخرى في العالم عندما ضخ شيوخ أبوظبي الجارة عشرات البلايين لإنقاذ دبي أثناء الأزمة
 

أصبح نموذج دبي لا ينافس، لأنه يقدم باختصار كل شيء مما يجعله مختلفا عن أي مدينة حول العالم. ومن أجل صياغة جديدة لعمران وعمارة المدينة كانت التنمية الأيقونية أكثر المداخل قبولا بل أنها أصبحت الاستراتيجية الحاكمة للنمو، ومن ثم حصلت دبي على نصيب الأسد من المشروعات الأكثر جدلا وإثارة مثل الجزر النخيلية وبرج العرب والمجمع التجاري بمنحدر للتزحلق على الجليد على حافة الصحراء ثم لاحقا برج دبي أعلى مبنى في العالم وفي أشهر قليلة تحولت دبي إلى ماركة عمرانية تسابقت المدن الخليج والعربية في محاولة تقليدها واستهلاكها أملا في وصول سريع ومضمون للحقبة العالمية.

دبي الماركة العمرانية الجديدة للمدن الخليجية والشرق أوسطية
إن هذه الحقبة التي تنوعت صياغات الباحثين في وصفها من "التدبيب" إلى "الدبيية" إلى "أثر دبي" كلها تحمل نفس المعنى وهو عمق الأثر الذي خلقته تلك الإمارة في الحركة التنموية العمرانية والمعمارية الشرق أوسطية حيث تنافست المدن في تقليد حاد لدبي في بنائها للأطول والأضخم والأكبر. المدهش أن تساؤلات جوهرية مثل ما هي نتائج هذه المنافسة المحمومة بين مدن الخليج أو ما هي طبيعة الحياة الاجتماعية التي يمكن أن تنتج في هذا النموذج التنموي أو كيف تقيم هوية المجتمع بافتراض أنه مازال يملك هوية بارزة ومؤثرة في إيقاع الحياة، والأكثر أهمية هل هذا النموذج يمثل طرحا متوافقا مع متطلبات الاستدامة والمساهمة في حياة رغدة لا تغفل حق الآخرين في المستقبل.

 

إننا نحتاج أن نتعلم ونعلم الأجيال القادمة أن نبني أفضل ولكن أقل، وألا ننجرف إلى إفلاس السباق الحجمي والكمي شديد الوضوح في مدن الخليج، والأكثر ضرورة أن نتذكر دائما أن الاستدامة والعدالة البيئية متعددة الأجيال والثقافات والهويات

إن نموذج دبي الذي اعتمد على الصورة والشكل والرسالة البصرية التسويقية أكثر من الاعتماد على مفاهيم تنموية متكاملة ومستدامة سبب خللا كبيرا فيما حدث في المدينة الخليجية في السنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين وخاصة فيما له علاقة بالتفسيرات الظاهرية السطحية لأطروحات العولمة والتعامل القشري مع القيم المحلية وما يتبعها من قضايا المواطنة والهوية. مما جعل البعض يعتقد ان دبي فقدت روح المدينة الخليجية العربية وتحولت إلى معمل مفتوح لاختبار وتطبيق موضات وطرز معمارية غربية لتدعيم هويتها الجديدة كمدينة عالمية ومن ثم خلقت بيئة معمارية وعمرانية مليئة بالأوهام والفانتازيا المنفصلة جذريا عن البيئة المكانية او الثقافية للإمارة.

 

الأكثر أهمية هنا أن التساؤل الجوهري لم يطرح وهو الخاص بما يمكن تعلمه من تجربة دبي في إنتاج المدينة السريعة اللحظية التي تسقط العنصر الرئيسي في تكوين المدينة وهو الزمن. أشارت الدلائل أيضا إلى ان قوة نموذج دبي لم يقف فقط على حدود منطقة الخليج أو الشرق الأوسط وإنما تجاوزه إلى حدود جديدة مثل باكستان التي أعلن رئيسها عاصف زارداري عام 2008 المرشح لفترة جديدة، كيف تمثل دبي مرجعية التطور لمدينة كراتشي حين صرح إنني أريد تطويرها مثل دبي لجلب الرخاء والازدهار الاقتصادي للبلاد. بل أنه استخدم هذا التوجه كأداة من أدوات دعايته الانتخابية انبهارا منه بدبي التي عاش بها فترة بينما استقر أولاده وأحفاده في أرقى مجمعاتها السكنية المغلقة على هضاب الإمارات.

ولكن الواقع أن دبي تلقت درسا هاما في مسارها عند تفاقم الأزمة المالية العالمية عام 2008 ولكن الإمارة تحقق لها ما لا يمكن تحقيقه لأي مدينة أخرى في العالم عندما ضخ شيوخ أبوظبي الجارة عشرات البلايين لإنقاذ دبي أثناء الأزمة، فكانت المكافأة سريعة بتغيير اسم برج دبي إلى برج خليفة تقديرا للإنقاذ الغير مسبوق خليجيا وعربيا. إن استرجاع تداعيات الأزمة العالمية على مدينة دبي وتوقف المئات من المشروعات العقارية التي وصف بعضها بالأسطورية، والتي كان مخططا لها أن تستكمل دراما تربع المدينة على عرش المدن العالمية وكذلك الاندفاع إلى هجرة دبي من المقيمين أو إنهاء عقود وأعمال الآخرين أحدث ارتباكا اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا يجب أن يمثل مجموعة من الدروس تتوقف أمامها باقي مدن الخليج والشرق الأوسط وأن تتجاوز نموذج دبي إلى مدخل أكثر توافقا مع الاستدامة الشاملة في الحياة والعمران من أجل مستقبل أنجح وأكثر استقرارا.

 

ومن ثم فإننا نحتاج أن نتعلم ونعلم الأجيال القادمة أن نبني أفضل ولكن أقل، وألا ننجرف إلى إفلاس السباق الحجمي والكمي شديد الوضوح في مدن الخليج، ويكفي أن الرياض أعلنت الرغبة في بناء أعلى مبنى بالعالم فور افتتاح برج خليفة في دبي. والأكثر ضرورة أن نتذكر دائما أن الاستدامة والعدالة البيئية متعددة الأجيال والثقافات والهويات.

 

إن تداعيات الأزمة الخليجية الراهنة أظهرت جوانب من شخصية دبي لم يكن أحد يريد رؤيتها حتى لا يفسد شاعرية هذا النموذج اليوتوبي

إن التوجه نحو صياغة مدن الخليج والشرق الأوسط كمدن متعولمة يشترط وجود موزاييك بشري متلون الأديان والأعراق والأجناس من العقول المبدعة والمفكرة والمنتجة للمعرفة، ومن ثم فان حديث الهوية والانتماء بمعناها العرقي القبلي أصبح طرحا غير ملائما إن لم يكن معوقا لتصورات التنمية المستقبلية في الخليج. تبرز هنا قيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر وإدراك أن تلك التركيبة المتباينة في بنية سكان مدن الخليج هي إمكانية تنموية هائلة وليست تهديدا لمفاهيم محدودة وغير صالحة لعلاقة الإنسان بالمكان ومفاهيم الانتماء في عصر عمال المعرفة وبزوغ الطبقة المبدعة.

إن تداعيات الأزمة الخليجية الراهنة أظهرت جوانب من شخصية دبي لم يكن أحد يريد رؤيتها حتى لا يفسد شاعرية هذا النموذج اليوتوبي. لم نكن نريد أن نرى دبي توافق على معاقبة أبنائها بالحبس والغرامة إذا تعاطفوا مع الأقارب والجيران. لم نكن نريد رؤية مدينة السعادة تمنع البعض من دخول الإمارة. لم نكن نريد المدينة المتسامحة المنفتحة تتحول إلى فضاء يعاقب وجهة النظر المختلفة ويعنف الباحث والمفكر والناقد إذا سبح عكس التيار.

 

أعود وأتساءل هل ستكون أزمة الخليج الراهنة كاشفة وفارقة وسببا في انطفاء أبراج المدينة صاحبة وزيرة السعادة ووزيرة التسامح وسيارات الشرطة اللامبورجيني وانتهاء أسطورة واحة الانفتاح والتسامح والديمقراطية، والتيقن من أننا مازلنا في الشرق الأوسط نبني المظاهر فقط ولكننا لا نرغب أبدا في تفعيل مضامين الحرية والعدالة والتسامح والديمقراطية وها هي دبي نموذجا لأضواء الأمل تخفت تدريجيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.