شعار قسم مدونات

قطر وجنون ذوي القربى

مدونات - قطر دول الحصار البحرين السعودية الإمارات مصر

  حينَ يُصاب الإنسان بداءِ الجنون، فإن الدّاء يتفاقمُ مع مرور الوقت إلى درجة أسوأ، فيُصبح صاحبه غير قادرٍ على ضبط أفعاله وسلوكياته ويُعرّض نفسه والغير للخطر. هذا هو حال دولُ الحِصار، فبعدَ أن أَشعلوا شرارة الأزمة من الفراغ رغم أن الأمة العربية غارقة أصلا حتى أذنيها في سيل من الأزمات والصراعات ولا تحتاج إلى المزيد منها، هاهم اليوم يديرون ظهورهم لأية مصالحة، رافضين كل محاولة لنبذ الخلاف وإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي، في سلوك غريب لم نعرفه من قبل، ويستمر دسّ خنجر الحصار في كبد الأخوّة، ليُقطّع شرايين الأرحام، ويفتكَ بأواصر القرابة والجوار، ويُسيء لروابط الدين وعنفوان العروبة الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، فكان اختيار هذا التوقيت بالضبط ضرباً من الجنون، وطعناً من الظهر، وإعلاناً لتطورات خطيرة على المدى القريب.

وانتقل الهجوم إلى ميادين مسالمة كان من المُفترض أن تكون بعيدة كل البعد عن فلَك الأزمة، فأُقحمتِ الرياضة والأغنية ولم يكن من باعثٍ لإقحامهما، وأُهين الصحفيون وطُرد المراسلون وحُبكَ التشويش على القنوات الرياضية في الخَفاء، بل ورُصدتْ ميزانيات ضخمة لتأليفِ وتلحينِ ما يُكرهُ سماعُه من تفاهة عابرة، وكلام غير مسؤول، كان أولى بهذه الأموال أن تسدَّ رمقَ أفواهٍ جائعة، وتقي آلاف اللاجئين المسلمين بردَ الشتاء القادم، أليس هذا ضربٌ من الجنون؟

وقد حمانا الله سبحانه وتعالى من أمراض العنصرية القاتلة، وجعلنا جميعا تحت راية العروبة والإسلام، إلى أن شاءت الأقدار أن يُمزَّقَ هذا الغطاء الساتر بأيادي صديقة كان أولى بها أن تحفظه وتصونه من الضياع، غير أن الحسد والبغضاء قد بلغا بهم مَبلغاً لم يكونوا بالغيهِ إلا بغواية المتآمرين، وحقد المتربصين، فسقط الجميع في فخٍّ مُدبَّر، لن يسلم من تداعياته طرفٌ من الأطراف.

ثم إنهم اعتقلوا في بلدانهم كل من خرج عن طريق الالتزام، وزاغت به أهواؤه إلى أهوال السياسة، وانحرف به اللسان إلى قَوْل كلماتٍ قد تصبُّ في خندق السياسة أكثر مما تتصل بروافد الدين، فكان ذلك أكبر ذنبٍ اقترفوه لا يُخلّصهم من العقاب مُخلّص، وإذا بهم يُقدِمون على نقيضِ ما أَمروا به، ويطلقون العنان لدعاتهم وعلمائهم لقول ما يشتهون في فنون وأدبيات السياسة، فاعْتُبِرت الأولى خروجاً عن مصلحة البلاد، وعُدَّت الثانية توافقاً تامّاً مع توجهاته. أليس هذا ضرب من الجنون؟

 
ثم أن يصل بك الحال إلى أن تختلس دعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ليلةٍ من رمضان، تدعو بها على أشقائك فيُؤمّنُ عليها الملايين من المصلين في جو مهيب وقد طُهّرت قلوبهم من النّفاق والخوض في أعراض الناس وشؤونهم، لكنهم يتفاجؤون بأن خشوعهم هذا قد اختطفه هوى إمام الحرمين، يوجههُ إلى حيث يشاء!

 

undefined

 
ثم كيف تسيرُ أمريكا ودولُ الحصار جنباً إلى جنبٍ على طريقٍ واحدٍ قَالوا بأنَّه مُعبَّدٌ نحو مرافئ الأمن والسلام والاستقرار، لِيتحوّل الجُنون هنا إلى خَرفٍ فظيعٍ لا يصدقه إنسان، ولعلَّ من قالَ هذا الهراء لم يقرأ يوماً ولم يرَ ما فعلته مرافقتُه إلى السلام من انتهاكاتٍ مروعة في سجن أبو غريب في العراق، وفي باكستان وأفغانستان واليمن والصومال، دمّرت أوطاناً عن آخرها واستباحت الأرض والعرض بتخطيطٍ مُحكم، دون سندٍ قانوني ولا عُرفٍ دولي، زميلةُ السلام هذه لم تترك شبراً من الدنيا إلا وأشعلتْ فيه الحروب والفتن، عَلَّمت الإنسانية أحدثَ أساليب القتل وكيف يُمحى البشرُ من وجه الأرض في أقلّ مدّة مُمكنة.

راعيةُ السلام هذه هي من تُصدّر الأسلحة الفتّاكة إلى دول العالم كدواءٍ ناجعٍ بعد أن تصيبها عمداً بداء الحرب والفوضى، أيقونةُ السلام هذه هي من أبادت ملايين الهنود الحُمر بأبشعِ الطرق المُتخيَّلة، ونفّذت مذابحاً في فيتنام والفلبين، هي من ألقت القنبلة النووية على هيروشيما ونكزاكي فألغت المدينتين من الوجود، وقَصفت المدن لاستهداف المدنيين أيام الحرب العالمية الثانية، فارتكبت فظائعاً في حقّهم، هي من تحلبُ دُولَ الحصار من ملاييرها لتَدعم بها إسرائيل وتساعد حكومة ميانمار على إبادة مُسلمي الروهينغا بضوءٍ أخضر منها، فهل هذا هو السلام الذي تتحدثون عنه؟

فلو سلّمنا جدلاً أنَّ قطر أخطأت في حقّ جيرانها، هل يُعقل أن يُفرض العِقاب قبل تقديم الدليل والبرهان؟ وهل يُعقل أن يَدخل المتهم قفصَ الاتهام فيُحكمَ عليه بأحكامٍ قاسية تُنفَّذُ على أرض الواقع في ليلةٍ ظلماء قبل أن يَعرف هذا المتّهم لائحة التُّهَم الموجَّهة إليه؟ وأين هي قيَمُ التسامحِ والسلام التي طالما كانت شعارا خالداً مُخلّداً ترفعه دولُ الحصار في وجه العالم كله حتى مع مدنسي القدس الشريف!

الظاهرُ أن تغيرات سياسية داخلية كانت السبب الرئيسي في هذا التخبّط الشديد للسياسات الخارجية لدى أطراف الحصار، فآثرت أن تنقل صراعاتها إلى مسرحٍ أكثر اتساعاً حتى تُخفّف حجم الضغوطات عليها، وتكسب شيئا من التعاطف الدولي لتنتشل معنوياتها من الحضيض، وفي انتظار أن تعيَ هذه الدول جسامة أخطاءها وفداحة ما أقدمت عليه وتراجع أوراقها قبل فوات الأوان، لا نملكُ سوى أن نثمّن تعامل قطر الذكي مع الأزمة وكيف تديرها بحنكةٍ سياسية كبيرة ومعنويات عالية وخطوات محسوبة تحت أنظار المنتظم الدولي، ستجعلها الرّابح الأكبر في نهاية المَطاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.