شعار قسم مدونات

"فورة" 25 يناير.. يا مصري ليه؟

blogs ارحل

منذ 7 أعوام حدث أن أصبنا جميعا بالجنون المؤقت، جنون دفعنا إلى حالة من الأمل غير المبرر، أمل غريب، أمل غير منطقي، تجاوز كل أفكارنا العاقلة والرزينة التي كانت تتحدث عن تغيير تدريجي وبطيء، وعن ضرورة التخطيط الدقيق والجيد لفترات طويلة من الزمن قبل أن نتوقع أن نرى فرقا حقيقيا على أرض الواقع. كنا نسير بحذر شديد في أرض من الآمال المسؤولة، الآمال التي ترى في المستقبل صبحا ممكنا، ربما يشاء القدر أن نلحق به قبل أن يطلع فيغمرنا دفء شمس أليفة بعد برد ليل طويل وقارس.

 

لا أعرف من أين جاء هذا الأمل ولا كيف تكوّن هكذا فجأة دون مبرر. لقد كنّا كالمخابيل أخذتنا فورة الرغبة الغامرة في صباح خارق، يطلع الآن وفي التَّو واللحظة. لابد أن العطش الذي كنا نحس به هو الذي دفعنا إلى هذا الطريق، كما التائهون في الصحراء، يُغرر بهم سراب الماء الذي يأتي من بعيد، وكلما اقتربوا قليلا ابتعد هو أكثر، يواصلون المسير لاحقين به، ربما بعد قليل، ربما اقتربنا، حتى إذا انهارت أقدامهم تحت الأجساد المتعبة، وخارت القوى، تمددوا على تلك الرمال الساخنة، تلفحهم شمس شرسة حارقة، ليست تلك التي كانوا ينتظرونها، وظلوا هكذا من بعيد، يراقبون السراب الممتد في الأفق دون أمل هذه المرة.

 

لا أعرف ما الذي جعلنا نصدق أن كل هذا ممكن، من أين أتينا بهذه الفكرة الغبية التي تكسر كل قوانين الكون ونواميسه؟ من أين طلع علينا كل هؤلاء الذين قادوا الناس في حالة غريبة من النشوة التي تغيب الحكمة، لا أذكر أن أحدا تكلم بعقل ولا بمنطق عندها، لا أذكر أنه كان هناك من توقف وقال: يا جماعة هذا غير ممكن، الأمور لا تجري هكذا، ليست بهذه السهولة! شخص واحد فقط كان دائم التشكك، كان دائم التركيز على أن الحياة ليست بهذه الرحمة، كنت أصفه بالتشاؤم، وأكرر طلبي أن يترك للناس أن تفرح، ولكنه ظل متشككا هكذا حتى بعد خطاب التنحي المعروف، ابتلعه كحبة دواء مرّة مع الكثير من الماء.

 

لقد بكيت من أجل فقراء مصر قبل أن أضع قدمي على أرضها، قرأت تاريخها وحاضرها في كل حالة مريض كبد وبائي، وفي كل طفل جديد يدخل مستشفى علاج السرطان
لقد بكيت من أجل فقراء مصر قبل أن أضع قدمي على أرضها، قرأت تاريخها وحاضرها في كل حالة مريض كبد وبائي، وفي كل طفل جديد يدخل مستشفى علاج السرطان
 

زوجي كان المتشكك الحكيم، وأنا الآن لاأزال كلما مرّت ذكرى هذه الأيام أقول له: كنت على حق، كنتُ ساذجة، كما كنّا جميعا، فيرُد هو رده الذي يستفزني في كل مرّة: الموضوع مش محتاج ذكاء، قُلت لِك. لا يستفزني أنه يرى الموضوع بغير حاجة لذكاء، ما يستفزني هو الحقيقة الكبيرة التي فيه، فالأمر حقا لم يكن يحتاج لذكاء، فقط بعض الهدوء والكثير من التصدي لفورات البهجة والرغبة في أن نحس بأننا موجودون، مؤثرون، لسنا أرقاما على هامش السجلات.

 

ستقولون كيف تتحدثين هكذا بكل أحقية وكأنك مصرية، أنت لا تعرفين ما معنى الحياة في مصر ولا يمكن أن يكون لديك فكرة عمّا مرّ به الناس قبل ذلك اليوم حتى تجتهدي في تفسير ما حصل. ربما كان معكم حق، لم أعش في مصر طويلا ولكنها عاشت فيّ منذ وعيت على هذا العالم، كما عاشت فيّ فلسطين، والبوسنة، والشيشان، والأردن، والعراق، والأندلس، وكربلاء.. نخدع أنفسنا عندما نظن أنه بالإمكان أن نخضع لتصنيفاتهم ولأفكارهم التي تقتضي بأن لكل منا خصوصية تجعلنا غرباء مختلفين، لا نجتمع على شيء.

 

لقد بكيت من أجل فقراء مصر قبل أن أضع قدمي على أرضها، قرأت تاريخها وحاضرها في كل حالة مريض كبد وبائي، وفي كل طفل جديد يدخل مستشفى علاج السرطان، في طوابير الخبز التي تملؤها وجوه مسودة غبراء، في حكايات الناس التي تخوفك من الناس، وفي قصص يوسف إدريس التي تصيبني بالغثيان في كل مرّة، وفي الهراوات التي تنهال على الناس ضربا كلما علت أصواتهم، وفي عمّال السخرة الذي ماتوا أفواجا حتى يقف الزعيم ويخطب في فخر غير مُستحق، وفي أطفال الشوارع خطيئة هذا البلد الكبرى. أذكر أغنية لعلي الحجار، اسمها "يا مصري ليه دنياك لخابيط" من كلمات سيّد حجاب. المرة الأولى التي سمعت فيها هذه الأغنية لم أبك فقط، بل أحسست أن قلبي في داخل صدري ينزف، يبكي دماً.

 

يا مصري ليه دنياك لخابيط والغلب محيط

والعنكبوت عشش على الحيط وسرح على الغيط

ومهولاتي تحب تزيط

ساعة الفرح زغاريط تنطيط

وفي المياتم هات يا صويت

وفي المظاهرة سخن تشيط

وفي الانتخاب تنسى التصويت

يا مصري ليه دنياك لخابيط والغلب محيط

والعنكبوت عشش على الحيط وسرح على الغيط

وليه بترشي وتتساهل وتضيع حقوقك بالساهل

تستاهل النار تستاهل يا غويط بيحسبك الجاهل

ساهل وساهي وغبي وعبيط

يا مصري قوم هش الوطاويط

كفياك تبليط

 
أستمع للأغنية حتى أسترجع بعض الكلمات، أتوقف لخمس دقائق، ينفتح جرح كبير في داخلي وأنفجر بالبكاء، لا يدّ لي فيما يحدث. منذ تركت مصر قبل 3 أعوام أغلقت بابا في عقلي، أطفأت الضوء على تلك الزاوية المقفرة، كنت ومازلت أحاول أن أعيش على التجاهل، ضرب الصفح، لأن الحياة مستحيلة عندما تظل كل تلك الصور حاضرة وكل تلك الآلام حيّة. عايشت أيام تلك التي سمّوها ثورة في مصر، كنت أريد الذهاب للميدان، قالوا لي: بلاش لحسن يقولوا عليك عناصر أجنبية. من الجيد أنني لم أذهب، كان الألم ليكون أشد الآن.

يعتقد سيد حجاب هو أيضا لسبب ما أن الأمر بسيط، هو من يقول: الأمر بسيط، حبة تخطيط. ويعاتب الناس على عدم نزولهم للانتخابات. ربما كانت تلك أكبر المصائب عندها يا سيّد "سيّد"، الآن بعد تلك "الفورة" أصبحت أكثر تعقيدا. كل المشاريع التي بدأت قبلها توقفت، كل الطاقات التي كانت تنتظر الخمسين سنة القادمة خمدت، كل من رأى في المستقبل البعيد احتمالا ممكنا صار يبحث عن طريقة ينجو بها من هذا الجحيم اليومي.

  

لقد كسرت فينا هذه "الفورة" أغلى ما كنّا نملك، لا ليس الأمل، ولكن الرغبة في التحرر من سطوة التاريخ، من ميراث الآباء والأجداد، من مصيرهم الذي أجبرونا عليه. كنّا نعتقد أنه بإمكاننا بصورة ما أن نخرج من هذه الدوامة، ليس بالضرورة اليوم أو غدا، ولكن كانت هناك خطط والكثير من سنوات الانتظار. الآن عدنا حيث بدأنا، عدنا وكأن الفاتورة لم يُدفَع منها شيء، وكأن الدين الذي تحملناه منذ ولدنا تضاعف عشرات المرات حتى بات يخنقنا. نرى أنفسنا بين حجري الرحى، هي تطحن ونحن نحاول التفلت منها، فقط نحاول أن نفلت، لا نحلم بأن تقف، ليس في حياتنا على الأقل.

 

ماذا فعلت بنا "ثورة" يناير؟ ماذا فعل بنا هذا الربيع الأسود؟

لقد ترك لنا شعورا بالقهر والانكسار، ترك الكثير من الألم، الكثير من الدماء، الكثير من المصائر التي توقفت خلف أبواب السجون وتحت أكواب التراب. لا تلوموني عندما أقول: "ربيع أسود"، فليست كل الأمور تقاس بعاطفة الحماسة، نعم لسنا مخطئين عندما نطالب بالكرامة وبالحياة، ولكننا أخطأنا عندما ظننا أن الأمور بتلك البساطة، عندما اعتقدنا أنه من غير الممكن أن يقطع الجلاد رأسا أو يفقأ عينا، كنا نعتقد أن غاية الألم بضع ضربات من السياط، ولكننا كنا جاهلين، أغبياء، لم نقرأ التاريخ ولا حتى الحاضر.

  

التاريخ، عجيب أمر هذه الكلمة، ولكنها أيضا تعزيني كثيرا. كلما قرأت وكلما عرفت أكثر عن تاريخ البشرية، كلما هوّن على نفسي، ورأيت للإنسانية مخرجا، لأننا إن أردنا أن نواجه الحقيقة المرّة، فالحقيقة تقول بأننا لسنا أول من يواجه هذه المذابح والمظالم، ولن نكون آخر الناس، لسنا الأكثر شقاء، ولن نكون الأقل حظا، على الأقل حتى الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.