شعار قسم مدونات

إني لأجد ريح عفرين..

BLOGS - AFRIN
لم أكن أعرف الكثير عن كوباني إلا بعد مقاومتها البطولية لغزو داعش عليها من جميع جهاتها، ومن تِلال سروج في الطرف التركي من الحدود، كنت أجد ريح كوباني! واتذكر الآية المباركة عندما وجد يعقوب ريح يوسف "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ" (يوسف 94) كنت أجد هذه الريح عند مشاهدة كل انفجار، وهول سماع صوته، وكل اشتباك، وكل سيارة مفخخة وعملية انتحارية ومع كل غارة جوية، شاهدتها بعيني، كنت أجد من ذلك ريح كوباني..
  

بعد ذلك قدّر الله لي أن أزورها ثلاث مرات في مهمات عمل، عند زياراتي إليها كنت أشم من كل زقاق، ومن كل دار، ومن كل وجه مواطن كوباني ألتقي به ريح المقاومة والبطولة، من آثار الاشتباكات على الجدران، من هدم البنيان الذي لم يبق منه عامرا إلا القليل، حتى من التراب الذي كانت تقلبه الرياح في الصيف كنت أشم ريح كوباني، ريح البطولة والمقاومة، والآن كلما أقرأ قصصا عن البطولات والمقاومات، وكلما أسمع انهزامات الباطل داعشا كان أو غيره، حينها أجد ريح كوباني كما وجد يعقوب ريحَ يوسف..

 

أما عفرين وما أدراك ما عفرين..

سمعت عنها، التقيت بأهلها، يقولون عنها كل ما هو خير، لكنني لم أرها بعد وليس من رأى كمن سمع، فمهما صورت ووصفت لي فهي أبعد من حدود الوصف وأجمل من تلك الصورة..

هي ليست كليلى قيس..
ولا جوليت روميو..
ولا زين مَم.. او شيرين فرهاد.. ولا خج سيابند..
وهي ليست ليلى أغنیة كاظم الساهر..
هي أجمل من كل الدنيا..

   

ما أعرف عنها هي المدينة الجميلة العامرة وسط التلال، الآمنة المستقرة، التي كانت أقوى من الحرب التي دمرت كل شيء في سوريا، وماذا بقي في سوريا غير عفرين وبعض القليل والقليل جدا من أشباهها من مدن بأقل من عدد أصابع اليد الواحدة، لم تطلها الحرب الخبيثة!
طبعا حرب خبيثة، وأي حرب في عصرنا ليست بالخبيثة؟!

  

تأتي الآن الحرب على عفرين بحجة وحدة سوريا والحفاظ على أمن تركيا.. ومسبقا نعرف نتائجها، فلا وحدة وراء الحروب ولا أمن بعدها
تأتي الآن الحرب على عفرين بحجة وحدة سوريا والحفاظ على أمن تركيا.. ومسبقا نعرف نتائجها، فلا وحدة وراء الحروب ولا أمن بعدها
 
خبث الحروب..

يكذب من يعتبر حربا حميدة، أو نزيهة، أو مُلزمة وهو يرى منظر حلب، وحماه، وإدلب، والغوطة، والكثير من دمشق، وكوباني، ومنبج، والطبقة، والرقة، ولا أتحدث عن الموصل والفلوجة وسنجار، وصلاح الدين، وبغداد نفسها عاصمة الرشيد، وغيرها وغيرها..

  

فقد عشنا وشفنا خُبث الحروب، واسألوا المجرب.. فأين أربعة آلاف قرية دمرتها آلة حرب صدام علينا، وأين 182 ألف مواطن كردي مفقود من عمليات الأنفال، وأين خمسة آلاف من شهداء حلبجة الشهيدة..
     
إذن یكذب من يصف حربا بالشريفة والنزيهة والملزمة..
هكذا حارب صدام وقصف حلبجة بالكيمياوي، وقام بحرب إبادة شاملة سميت بسورة القرآن الكريم (الأنفال) وكان يقول حفاظا على وحدة العراق..
وقبلها حارب إيران في ثماني سنوات وكان يقول إن طريق القدس يعبر من هناك، وأين الغرب من الشرق؟! ثم استمر باحثا عن طريق القدس زورا فاتجه جنوبا ليغزو الكويت، ويدمر ذلك البلد الآمن المستقر الذي دعمه طوال حربه مع ايران، ثم حول طريقه إلى القدس باتجاه الشمال إلى كردستان ليدمر فيها ما يشاء بحجة الوصول الى القدس..
وكانت أبواب الغرب مفتوحة على مصراعيها باتجاه القدس لكنه لم يفعل..

 

یا حبیبی یا رسول الله.. والله لهو منكر الحرب علی عفرین، ولهو منكر أن تكون الحرب باسم دينك فتُقرأ السُوَر ويُهتف باسم الله وتحت الشهادة برسالتك".

وهكذا حارب بوش ومن بَعدهُ العراق ودمروها تدميرا بحجة صدام وأسلحة الدمار الشامل، واستخدم قنابل سميت بالذكية، وفعلا كانت ذكية لما خطط هم لها ووضعت من أهداف، فاخترقت الجدر الاسمنتية لتصل للمدنيين والأطفال داخل ملجأ العامرية!! فجاء بوش للعراقيين بحكومة وأحزاب دمار شاملة للإنسان والأرض والعمران..


وهكذا يحارب نظام بشار الأسد الشعب السوري منذ سبع سنوات وبدعم من ايران وروسيا، بل بمشاركة فاعلة منهما أرضا وجوا، بحجة الحفاظ على وحدة سوريا.. ومزقوا سوريا تمزيقا، وشردوا أهلها تشريدا، وقتلوهم تقتيلا..

وجاء داعش بحجة الحفاظ على الدين ومحاربة الكفر.. فشوهوا الدين ونفروا الناس عنه.. وأحرقوا الحرث والنسل..

وتأتي الآن الحرب على عفرين بحجة وحدة سوريا والحفاظ على أمن تركيا.. ومسبقا نعرف نتائجها، فلا وحدة وراء الحروب ولا أمن بعدها..

 

ألا تبا للحروب ولمروجيها وأبواقها..
ألا تشبعون من إسالة الدماء؟!
ألا يكفيكم مناظر القتل والتشريد؟!
ألا توجعكم مشاهد جثث الأمهات والأطفال؟!
هل ترغبون في المزيد من خراب العمران؟!
أنتم أصحاب الحروب، ومروجوها وأبواقها كما جهنم عندما تقول هل من مزيد؟!


نعم: لأجد ريح عفرين..

نحن الذين لا نعرف الحروب..

بل نكرهها كره صدام لخميني وخميني لصدام..
وكره الرئيس العربي لرئيس عربي آخر..
وكره حزب كردي لحزب كردي آخر..
وكره التركي والعربي والفارسي للدولة الكردية..

  

نحن أولئك لا نعرف ماذا نفعل، غير الذوبان على طولنا، كما تذوب الشمعة المشتعلة على طولها، وحتى المواقف لا نعرف كيف نعلنها، طالما أصبح في عصرنا إعلان المواقف استعراضا للعضلات، وللمزايدات السياسية.. ونحن لا من هذا ولا من ذاك..

  

كم يؤلمني عندما أزور مريضا بالسرطان فلا أملك ماذا أفعل له، حتى الكلام لا يخرج من فمي، لذلك لا أحبذ زيارة هؤلاء لكثرة الشعور بالضعف من جانبي.. حتى إذا زرت مريضا فإن ذلك يكون غصبا عني، وبمرافقة آخرين، لأبقى في عالم صمتي حتى أغادر المكان..

  

هكذا أنا الآن..
كالذي وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف..".

فیا حبیبی یا رسول الله.. والله لهو منكر الحرب علی عفرین، ولهو منكر أن تكون الحرب باسم دينك فتُقرأ السُوَر ويُهتف باسم الله وتحت الشهادة برسالتك..
لهو منكرٌ يا رسول الله ان يُجمَل القتلُ بصبغة دينك..
لكن نحن عاجزون عن تغيير هذا المنكر..
أما اللسان فلا يُسمع أحد كلامنا ولا صيحاتنا..
أما بالقلب فهو أضعف الإيمان.. ونحن نعترف أننا في مرحلة أضعف الإيمان، ونحن نعيش عصر ضعفنا وهواننا على الناس..

  

نحن أولئك الذين قال فيهم أحمد شوقي ليس لنا إلا الريح..
وقال فهمي الهويدي فينا نحن شعب الله المحتار..
وقال بحقنا الكاتب الأميركي دانا آدم شميدت (لا أصدقاء لهم إلا الجبال..
فنحن أولئك الذي ليس لنا إلا الجبل.. بل حتى الجبل..
نحن ليس لنا حتى أنفسنا..

 

فأمامك عفرين ليس لنا إلا أن نجد ريحك ونحن العابرون بصمت..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.