شعار قسم مدونات

لذة الشيء.. هل في الحصول عليه أم في انتظاره؟

BLOGS تأمل

طالما بحث وتكلم الفلاسفة عن كثير من الثنائية الضدية المرتبطة بحياتنا المعاشة لإعطائها تفسيرات ومسوغات بغية تقريبها والكشف عن مكنون علاقة بعضها ببعض، وهذه الثنائية نجدها كثيرة، بدأ بما هو عام وكلي كالظلام والنور، والخير والشر.. وانتهاء بما هو خاص وجزئي كالسعادة والتعاسة، واللذة والألم.. حتى إن هذه الجزئيات بات يبحث فيها وتدرس مستقلة عن الفلسفة بشكل عام، واتخذت من نفسها حيزا مهما في علم النفس الحديث، لكونها ارتبطت ارتباطا وثيقا بالسلوك الإنساني الذي هو محل البحث عند علماء النفس، ومن خلال ذلك يحاولون به تفسير أفعال الإنسان وعلاقة ذلك بنفسية الشخص في ذاته حتى يتمكنوا من ربط الأفعال بالنفس، فتكون على الأقل هذه الأفعال معللة يمكن إرجاعها إلى عللها.

على الرغم مما قلناه بأن علم النفس أصبح مستقلا بنفسه بغية تسهيل ودراسة الإنسان من جانبه السلوكي، إلا أنه مع ذلك لم يتمكن من الحسم في كثير من المفاهيم الفلسفية المتعلقة بالإنسان وإعطائها تفسيرات من خلالها يمكن عزو الكثير من المفاهيم إلى مظانها. من بين هذه المفاهيم نجد مفهوم "اللذة"، الذي وإن كان هو متفقا في مدلوله الا أنه هناك خلاف في الأسباب التي تجعلنا نقول هذا لذيذ وهذا غير ذلك، مما يجعلنا أمام إشكالية نحتاج من خلالها إلى البحث والمقارنة بين كل هذه الأسباب حتى نقف على ما مدى صعوبة تحديد السبب الحقيقي الذي يكمن وراء ذلك.

ولا شك أنه بقدر ما هناك من اختلافات في هذا المفهوم هناك أسباب وتفسيرات يستند إليها كل من يدلي بدلوه في هذا الجانب، حتى أنا بدوري حرت في هذا الجانب لكون الموضوع حقيقة عصيا على الفهم من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن مفهومه يتداخل كثيرا مع مفهوم آخر هو مفهوم السعادة، الذي بدوره أيضا لم يسلم من التفسيرات المختلفة، ولكن ما يمكن أن نقرب به هذا المفهوم إلى الأذهان هو أنه ارتبط كثيرا فيما يمكن إرجاعه إلى "الانتظار". حقيقة بقدر ما نكون ننتظر شيئا يكون في نظرنا أنه سيكون لذيذا وممتعا.

نفسية الإنسان متى كانت متأملة ومنتظرة لشيء جميل وسعيد من المتوقع أن يكون هذا الشيء يصحبه شعور باللذة والإحساس بالارتياح

ولنقترب من الموضوع أقل نضرب مثلا يكون بمثابة مؤشر نقيس به صحة هذا الادعاء من عدمه، مثلا ونحن ندرس جاءنا نبأ ينبئنا بأن العطلة ستكون الأسبوع المقبل، أو مثلا نحن جائعين ووجبة الأكل ستكون أقل من ساعتين من الآن، فهل ذاك الشعور باللذة الذي يصحبنا سيكون في الانتظار أم في شيء آخر هو من يشعرنا بلذة العطلة أو لذة الأكل؟ وأمر الانتظار بقدر ما فيه من ترقب لهذه اللحظة بكل شغف أحيانا، فيه ترقب يصحبه توتر أحيانا أخرى، لذلك لا يمكن أن يرقى لأن يكون ميزانا لنقيس به هذا المفهوم، وذلك أن الانتظار يختلف من مقام إلى آخر حسب الشيء الذي ننتظره، فالذي ينتظر الشيء الجميل أو السعيد لا يمكن أن يكون ذاك الذي ينتظر الشيء القبيح أو الحزين!

إذن فشعور الذي ينتظر العطلة ولا سيما إن كان بعيدا ليرجع إلى أهله ليس هو شعور المريض الذي ينتظر عملية جراحية ستجرى له، حتى إن الانتظار نجده يختلف في الشخص الواحد وإن كان كله انتظارا، فهو حينما يكون ينتظر الرجوع إلى أهله ليس هو الشعور الذي يصحبه وهو ينتظر وداعهم ونجد أيضا أن كثيرا من الناس ربط اللذة بمجرد الحصول على الشيء، فهو حينما يحصل عليه يمكن في ذلك الوقت أن يجد لذة في مجرد كونه حصل عليه، بغض النظر عن كونه حصل عليه بالانتظار أم لا، وبغض النظر أيضا عن الكيفية التي حصل بها على الشيء، المهم عنده والمعلق عليه أمله هو الحصول عليه، بعيدا عن الحيثيات التي قلناها.

ولكن إذا نظرنا من جانب آخر لهذا المفهوم نجده ليس بهذه الرؤية، وذلك حينما نرجع إلى الأشخاص سنجدهم ليسوا كلهم يشعرون بنفس الشعور حينما يحصلون على الشيء، وذلك إذا قارنا بين شخصين كل منهما قدم له وجبة من الأكل، أحدهم قدمت له وجبة زيادة على المكان الجميل فيها من أنواع المأكولات والمشروبات ما ليس عند الشخص الآخر الذي قدمت له، فهل حقا سيكون شعور اللذة عند الأول كالشعور عند الثاني؟ طبعا سيختلف الشعورين عند كليهما وإن كان كل منهما قد حصل على الشيء، ونفس الأمر إذا تساءلنا بين كون هذا حصل على الشيء من غير طريقه الأخلاقي والقانوني، وبين آخر حصل عليه بطريقة أخلاقية وقانونية، فالشعورين حتما سيختلفان.

ويبقى الأمر متجاذبا بين التفسيرات المختلفة كل يفسره بحسب ما رأى من تفسيرات ربطها بهذا المفهوم، ويبقى جانب مهم في هذا لم نتطرق إليه هو الجانب النفسي للإنسان، فنفسية الإنسان متى كانت متأملة ومنتظرة لشيء جميل وسعيد من المتوقع أن يكون هذا الشيء يصحبه شعور باللذة والإحساس بالارتياح، وكذلك متى كانت منذرة ومنتظرة شيئا قبيحا وحزينا فمن المتوقع أن يصحب هذا الشيء شعور مخالف للشعور الأول أثناء الحصول عليه، فالعامل النفسي له دور كبير في هذا الجانب ما يجعله ركيزة أساسية في تفسير الكثير من الظواهر والسلوكات الإنسانية، ولكن تبقى أمامنا إشكالية أخرى تطرح نفسها علينا بالقوة هي كيف نفسر نفسية الإنسان بكونها سعيدة ومنشرحة من عدمها؟ أو ما هي بالأحرى الأسباب التي تجعل من نفسية الإنسان إيجابية ومرتاحة وتجعل منها في نفس الوقت سلبية ومضطربة؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.