شعار قسم مدونات

لماذا ينتحر الطبيب والأخصائي النفسي؟

blogs الانتحار

نائب الأمراض النّفسية والعصبية بمعهد دمنهور التعليمي انتحر منذ أسبوعين بأن ألقى بنفسه من شقّته من الطّابق العاشر، كان الخبر صادما وأثار كثيرا من الجدل ليحتدم النّقاش حول أسباب تفشّي ظاهرة الانتحار الّذي تحوّل إلى غول نهم يلتهم ضحاياه بلا رحمة ويطلب المزيد، ليتساءل الجميع لماذا ينتحر البعض ثمّ لماذا ينتحر من من المفترض أن يمنع أو يحدّ من ظاهرة الانتحار؟ 
  

انتحار الإنسان:

كلّ يوم خبر جديد عن انتحار إنسان هنا أو هناك، يفقد العالم شخصا كلّ أربعين ثانية نتيجة لهذا الغول حسب منظّمة الصحّة العالمية ويتصدّر الاكتئاب كأحد أهمّ أسبابه ليصل عدد المنتحرين نتيجته قرابة المليون شخصا سنويّا حسب الاتّحاد العالمي للأطبّاء النّفسيين، ويبدو أنّ الأعداد في تزايد والنّزيف مستمرّ في ظلّ عدم وجود رغبة جدّية في مراجعة المقاربات المتعاطية مع ظاهرة صارت معولمة وكأنّها تفاقمت كنتيجة مباشرة لعولمة متوحّشة لم تنشر سوى الفقر والموت. صار الانتحار كابوسا يطارد الإنسان، تمتلئ به صفحات أخبار الحوادث ليقرأه الجميع مع قهوة الصّباح دون أن يعيره البعض الاهتمام وليولّد عند البعض الآخر نفس الرّغبة هربا من ضغوطات حياتية خانقة حوّلتهم إلى أجساد متعبة بالية تسكنها أرواح خاوية.

يعتبر الاكتئاب أحد أهمّ أسباب الانتحار والملاحظ أنّه لم يعد يخصّ الفئات العمرية المتوسّطة المعرّضة أكثر للضّغوطات بل صار يمسّ الطّفولة والمسنّين، انتحر الطّفل ذو العشر سنوات وانتحر الشيخ الثمانيني بعد أدائه الصّلاة وانتحر الشّاب وانتحرت الفتاة: حرقا وغرقا وشنقا وتحت عجلات المترو أو السّيارات، وبعضهم بالمسكّرات والمخدّرات وآخرون تفجيرا لأنفسهم استجابة لبعض الدّعوات، انتحر الجميع متذوّقين كلّ أنواع الموت بعد أن حرموا من كلّ مذاق للحياة.

الانتحار في مجتمعاتنا الّتي فرّطت في خصوصية كانت تمثّل لها شبه حصانة قد اكتسب خصوصية أخرى وهي شكله العنيف الباحث عن أثر الصدمة وجلب الانتباه وكأنّه تعبير عن احتجاج

من المغالطات أن نقول أنّ مجتمعاتنا العربيّة والمسلمة تعرف نسبا للانتحار أدنى من تلك الّتي في المجتمعات الغربية ويريد البعض أن يروّج لذلك لإثبات إفلاس وفشل المنظومة القيّمية الغربية وهربا من مواجهة استحقاقات اللّحظة،  باعتبار خصوصية مجتمعاتنا المحصّنة بموروث ثقافي مستلهم من ديننا الّذي يمنع ويحرّم قتل النّفس أو الإلقاء بها في التهلكة ويعتبر الحياة الدنيا مجرّد مطيّة لأخرى أسمي وأبقي وهي خصوصية وقع التفريط فيها بإفراغ الدّين من روحه محوّلين إيّاه إلى طقوس بالية،  نازعين منه وظيفته الأساسية ألا وهي بناء الإنسان.

صار الانتحار في مجتمعاتنا العربية والمسلمة ظاهرة شبيهة بالّتي تعيشها المجتمعات الغربيّة بل ويفوقها حدّة وعنفا وقد تفاقمت مع العولمة وانتشار وسائل الاتّصال والتكنولوجيات الحديثة. فالانتحار في مجتمعاتنا الّتي فرّطت في خصوصية كانت تمثّل لها شبه حصانة قد اكتسب خصوصية أخرى وهي شكله العنيف الباحث عن أثر الصدمة وجلب الانتباه وكأنّه تعبير عن احتجاج على واقع مرير فاحت فيه رائحة الموت وشحّت معه أسباب الحياة.

انتحار الطّبيب والأخصّائي النّفسي:

إذا ما اعتبرنا أنّ نسب الانتحار ارتفعت نتيجة للضّغوطات الشّديدة المحيطة بالفرد وسط تغيّرات سريعة يشهدها العالم نتيجة للتكنولوجيا والعولمة المتوحّشة والصّراعات والحروب والكوارث الطبيعية حيث صارت أخبار الموت مهيمنة على أخبار الحياة فانّ انتحار طبيب أو أخصّائي معالج للظّاهرة يطرح أكثر من سؤال ويجعل المنظومة المعالجة والمتعاطية معها محلّ نقاش وإعادة تقييم.

فالشاب إبراهيم أحمد نصرة صاحب الثلاث والثلاثين عاما، نائب الأمراض النفسية والعصبية بمعهد دمنهور التعليمي الّذي انتحر بإلقاء نفسه من شقته بالطّابق العاشر لم يكن أوّل من يفعل ذلك وربّما لن يكون الأخير، فقد سبقه إلى ذلك العديد من الأطبّاء والأخصاّئيين النّفسيين، ففي مايو الماضي انتحر أخصّائي نفسي مغربي بمدينة الدّار البيضاء بنفس الطّريقة، أمّا جمال الخطيب أستاذ الطبّ النّفسي الأردني فقد اختار أن ينهي حياته بطلقات من مسدّسه في أغسطس 2013.

والملاحظ أنّ الأطبّاء والأخصّائيين النّفسيين هم الأكثر عرضة للانتحار وذلك ما أكّده موقع "بسيكولوجي توداي" (Psychologytoday) ففي الولايات المتّحدة الأمريكية مثلا هناك طبيب واحد على الأقلّ ينتحر كلّ يوم، وهم الفئة الأكثر تعرّضا للأزمات القلبية والجلطات الدّماغية والأمراض المزمنة ومن الأسباب المذكورة لانتحار الأطبّاء: الضغط النفسي، الإجهاد نتيجة ساعات العمل الطّويلة، قلّة النّوم وعدم انتظامه، وتأثير وفيات المرضى وتأثّر بعضهم بفشلهم في معالجة مرضاهم أو حدوث مضاعفات لهم.

لا يمكن الخروج من هذه المتاهة والحلقة المفرغة إلّا من خلال إنعاش منظومتنا القيّمية وجعل الإنسان في محور اهتمام أيّ تعاط
لا يمكن الخروج من هذه المتاهة والحلقة المفرغة إلّا من خلال إنعاش منظومتنا القيّمية وجعل الإنسان في محور اهتمام أيّ تعاط
 

ويضاف إلى كلّ ما ذكر في حالة الأطبّاء والأخصّائيين النفسيين: معايشتهم المستمرّة للمرضى والسّماع لهم والتأثّر بهم إذ أنّهم عرضة للعدوى ويدخل ذلك في خانة مخاطر المهنة تماما كمخاطر مزاولة العمل في وسط مليء بالفيروسات وتنتشر فيه الأمراض المعدية. دون أن ننسى أنّ الطّبيب المعالج للمريض النّفسي يتعايش معه في نفس البيئة وهو معرّض لنفس الضّغوطات وهو في تكوينه لم يتلقّ دعما خاصّا لدرء المخاطر الّتي قد يتعرّض لها بل لم يعامل كانسان سيعالج إنسانا وإنما كآلة تشحن بكمّ مهول من المعلومات تتعاطى مع آلة أخرى.

فلا يمكن للإنسان أن يعالج إنسانا ما لم يكن إنسانا وما لم يعتبر من يعالجه إنسانا. وبالعودة إلى الأمثلة المذكورة لانتحار الأطبّاء والأخصّائيين النفسيين العرب نلاحظ أنّهم اختاروا طرقا للانتحار هي بعيدة عن مجال معرفتهم ممّا يدلّ على أنّهم فقدوا كلّ آليات السّيطرة الذّاتية، فطبيب يعلم كلّ أساليب "الموت الرّحيم" وطريق المرور إلى العالم الآخر دون ألم يختار أن يرمي بنفسه من الطّابق العاشر أو الرابع أو أن يفجّر رأسه برصاصة وهو من حاول أن يمنع غيره من فعل ذلك هو دليل فشل لكلّ المنظومة العلاجية وفي التّعاطي مع الإنسان بصفة عامّة.

ولمحاولة إيقاف النّزيف ومواجهة حقيقية لظاهرة مخيفة صارت تهدّد الجميع لا بدّ من وقفة تأمّل ومراجعة جذرية لكلّ المقاربات المتعاطية معها، وقاية وعلاجا، فلا يمكن الخروج من هذه المتاهة والحلقة المفرغة إلّا من خلال إنعاش منظومتنا القيّمية وجعل الإنسان في محور اهتمام أيّ تعاط. ونملك ما يجعلنا نستلهم منه ذلك،  فديننا الحنيف كان ولازال هدفه ومقصده ومشروعه هو بناء الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.